أن باطن الأمر أعمق من ذلك: فما كان لهذا الخطأ أن يشيع كل الشيوع وينتشر كل الانتشار ويلقى كل القبول لو لم يكن يقدم للغة خدمة ما، ويفي للفكر بحاجةٍ ما، ويملأ فراغًا اتصاليًّا كان شاغرًا قبله، ومن الخسران أن نضحي به ونفقد خدماته بدعوى الأخطاء الشائعة وحجة قل ولا تقل.
يقول لك المتزمت: قل «مُتحف» بضم الميم، فلماذا أباح العرب لأنفسهم تجنب اللفظة الثقيلة حتى لو جرت على القاعدة، بينما نجعل نحن ذوقنا مَطيَّة؟ والله ما أنا قائلٌ إلا «مَتحف» الدارجة الرائجة المحكية صديقة لساني حتى لو شذَّت عن القاعدة، فما بالك إذا كانت «مَتحف»، في حقيقة الأمر، صائبةً بقاعدة الاشتقاق الثانوي من «تحفة»؟! والشيء نفسه ينسحب على كلمة «تقييم» Evaluation التي يخطئها الغلاة ويردوننا أن نقول: «تقويم»؛ لأن الأصل الواو، فلا يورثنا تصويبهم إلا خلطًا والتباسًا مجانيًّا، ولا تدري أنعني من الكلمة: التصحيح أم العقاب أم حساب الزمن أم مواقع البلدان أم تحديد القيمة! وما بالك إذا كانت «تقييم» صحيحة بالاشتقاق الثانوي من «القيمة»؟
يقول لك الزِّمِّيت لا تقل «هام» وقل «مهم»، أو لو كانت «مهم» ثقيلة الظل بل مضحكةً في بعض السياقات؟ ثم تُحقِّق في الأمر علميًّا فتجد أن لا خطأ هناك ولا خطية: فهناك فعلان «همَّ» و «أهمَّ» والاثنان بمعنى أحزن وأقلق، فتكون «هامٌّ» و «مهمٌّ»(اسما الفاعل) كلتاهما صحيحة.
[(٤) على هامش التجديد والتقييد]
في هذا الفصل الذي يعد الفصل الرئيسي في الكتاب يقدم المؤلف خطراتٍ ثاقبةً وتطبيقاتٍ حيةً لأفكاره النظرية، ونماذج لما يجب أن يكون عليه العمل العلمي اللغوي كحارسٍ للمسار وضابطٍ لإيقاع التحول، وعاصمٍ للغة من الجمود والتحجر، ومن التنكس أيضًا والتحلل والميوعة، أنت هنا بإزاء لغويٍّ خبير، باقعةٍ حجة، محنَّكٍ مجرب، عرك اللغة وسبر أغوارها وأفنى في درسها وتدريسها زهرة العمر، يرفدك بتحليلاتٍ موضوعيةٍ عميقة، وتخريجاتٍ أمينةٍ سديدة، بعيدةٍ عن خواطر الهواة الذين يتجرءون على اللغة ولم يمتلكوا أدواتها، فتفضحهم عجمتهم وترد عليهم ركاكتهم ذاتها وتكفي خصومهم