للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يضحك منها أهلها ولا يفهمونها ولا يتحدثون بها في جدٍّ ولا هزل؟ أرى أن الفصحى في موقفٍ لا يحتمل أي نعرة أو تصلب أو نرجسية جريحة، ويليق بنا أن نأخذ أمرها بشيءٍ من اللين والحصافة والقصد.

لقد استنفد المحافظون جهدهم طوال قرنٍ في مهاجمة العامية (١) وتتبع لحن العامية والتنديد به، بينما كانت العامية «تلقى هذا كله بقوةٍ خفية، توشك أن تكون سحرية، هي قوة الحياة، وقوة المجتمع، فهي من الحياة وفي الحياة، وهي تستجيب لسنن الاجتماع مرنةً طيعة، فلا تتأثر بتلك المهاجمة، بل مضت تنمو نموًّا مطردًا، فتثري في مفرداتها، وتزيد طاقاتها الفنية، فتتخذ أوزانًا للفن القولي جديدة، غير تلك التي عرفتها الفصحى، وبهذه القوة تقدمت فألْزمت الفصحى مكانها المحدود، في الحياة الرسمية، دينيةً وحكوميةً، ومبلغ أمرها، في أحسن تصوير، أنها لغة القلم، والعامية لغة اللسان، وإنما اللغات صناعة الألسنة.» (٢)

[(٤) دانتي وفصاحة العامية]

قلنا: إن حالنا في الازدواجية اللغوية أشبه بحال أصحاب اللغات الرومانية (الرومانسية/ الشعبية) Romance languages في عصر النهضة، وكان دانتي واحدًا من هؤلاء. في بداية القرن الرابع عشر كتب دانتي دراسة (لم يكملها ولم تصدر إلا بعد قرنين من كتابتها) بعنوان «في فصاحة العامية» De Vulgari Eloquentia (٣) مدح فيها مزايا اللغات المحكية التي يتعلمها الطفل تلقائيًّا وبشكل لا شعوري، وقابل بينها وبين اللاتينية المكتوبة التي تُكتسَب بشكلٍ واعٍ في المدارس عن طريق الأحكام القواعدية


(١) يقول عنها د. طه حسين: « … لهجة من اللهجات أدركها الفساد في كثير من أوضاعها وأشكالها»، ويقول ا. محمود تيمور: «لا ضابط لها ولا نظام، فإنها لهمجية غير مهذبة، وليس لها من أصولٍ مستقرة قط»، ويقول أ. مصطفى صادق الرافعي: «وكان منشؤها من اضطراب الألسنة وخبالها وانتقاض عادة الفصاحة.»
(٢) أمين الخولي: لسان العرب اليوم، بحث ألقي في مؤتمر مجمع اللغة العربية بالقاهرة، الدورة ٢٨، ١٩٦١، ونشر في البحوث والمحاضرات، الصفحات: ٣٧ - ٥٢.
(٣) كتبها دانتي باللاتينية، ربما لكي يسترعي انتباه العلماء، الذين كان يأمل في أن يتحولوا إلى استعمال العامية.

<<  <   >  >>