للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بوصفها لغةً ثانية. لقد تمت دراسة التغيرات الصوتية وتم التعامل مع ظاهرة التغير اللغوي بطريقةٍ منهجية، وربما كانت هذه هي البداية الحقيقية لعلم اللغة التاريخي كما نفهمه اليوم. لم تكن العاميات الرومانية مجردَ لاتينية فاسدة بل لغاتٍ ذات جدارة وقائمةً بذاتها، ومرتبطة تاريخيًّا باللاتينية بطرق مثيرة. تمت مناقشة هذا التغير اللغوي، وقد عزاه الكتاب إلى عوامل الاحتكاك والاختلاط اللغوي، وإلى التغيرات التدريجية المستقلة التي تحدث مع انتقال اللغة المنطوقة من جيل إلى جيل. (١)

يقول دانتي في كتابه «في فصاحة العامية»: «إنني أعرف العامية بأنها اللغة التي يكتسبها الأطفال ممن حولهم عندما يبدءون في نطق الكلمات، وباختصار أكبر، هي اللغة التي نتعلمها بدون أي قواعد على الإطلاق من خلال تقليدنا لمربياتنا.» (٢)

ويقارن دانتي هذا النوع من اللغة ب «النحو» (٣) الذي يعني به اللغة الرسمية؛ لغة الكتابة، وهو ما يصطلح عليه الآن باللغة الفصحى أو المعيارية (اللاتينية في زمن دانتي): «ولدينا بعدئذٍ كلامٌ ثانويٌّ آخر، سماه الرومان النحو، وإن لدى اليونانيين وغيرهم أيضًا هذا الشكل الثانوي للغة … ولكن قلما يكتسبها أحد لأن التمكن من قواعدها وفنها يتطلب وقتًا طويلًا ودراسة مثابِرة.» وبين اللغتين (العامية والفصحى) يعتبر دانتي أن العامية هي الأنبل: «والآن بين اللغتين فالأنبل العامية: أولًا لأنها اللغة الأولى التي نطق بها الجنس البشري، وثانيًا لأن العالم كله يستخدمها وإن بضروبٍ متباينة من النطق والشكل، وثالثًا لأنها طبيعية بالنسبة لنا، بينما الأخرى أكثر اصطناعًا وتعمُّلًا.»

وإن اللاتينية هي لغة الكنيسة، وهي لغة مقدسة، وسيبدو أقرب إلى الهرطقة إذا ما اقترحنا أن اللغة العامية هي الأنبل، ولكن دانتي يعرب عن إعجابه بما هو «طبيعي» في مقابل ما هو «اصطناعي»، أي كل ما يصنعه الفن (٤) … فالفن إنساني في جوهره، في


(١) ر. هـ. روبنز: موجز تاريخ علم اللغة، عالم المعرفة، الكويت، عدد ٢٢٧، نوفمبر ١٩٩٧، ١٧٦.
(٢) De Vulgari Eloquentia: Dante's semiotic workshop.، free online library، Gale، Cengage Learning، ٢٠٠٩.
وانظر أيضًا: اللغة والهوية، لجون جوزيف، ترجمة د. عبد النور خراقي، عالم المعرفة، الكويت، عدد ٣٤٢، أغسطس ٢٠٠٧، ص ١٤٠.
(٣) الجراماتيكا، وهي قريبة على نحوٍ مدهش من كلمة «النحوي» العامية (بفتح الحاء) كاسم للغة الفصحى!
(٤) اللغة والهوية، ص ١٤١.

<<  <   >  >>