للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

حين أن الطبيعة إلهية في مصدرها. وفي كتابه «المأدبة» Il Convito الذي كتبه في نفس الفترة التي كتب فيها «في فصاحة العامية»، يدعو دانتي إلى أن يستعمل الناس لغتهم الخاصة لأن ذلك هو الأقرب والأوقع.

والحق أن العامية مغبونة، حتى في اسمها، الذي يومئ إلى تدنيها وسوقيَّتها، بينما هي في الواقع «فصحى الحياة»، ويغلب الاعتقاد بأنها «انحراف» عن اللغة المعيارية، أو تدهور لها أو فساد، بينما هي في أحيان كثيرة «تطور» نحو المرونة والسهولة والاقتصاد والنجاعة الاتصالية، يقول الشيخ أمين الخولي: «كلما بذلت محاولة لتمكين العربية من ابتلاع العاميات قيل إننا ندعو إلى العامية، وبناء على هذا تضيع جهود التيسير وتبقى الفصحى في عزلتها عن لغة الحياة وتبتلعها العامية.» (١) لقد آن لنا أن نفرق بين ما هو عبث وتحلل لغوي و «لحن»، وما هو ارتقاء وإبداع وحيوية … أن نقاوم العبث والتحلل ونشجع الابتكار والتجديد، ونواكب كل ذلك بالتنظير اللغوي الحصيف، وإلى جانب تيار «لحن العوام» و «قل ولا تقل» نشجع أيضًا تيار «صواب العامة» و «رفع الإصر» و «بحر العوام»، (٢) فلا نتحرج من اعتماد الألفاظ المولدة واستلهام العامية واسترفادها والإفادة مما صح منها وفصح وساغ، وأن ننزل هذا العامي الفصيح في معاجم رسمية مصدَّقة معتمدة، (٣) وندرجه في مناهج اللغة بالمدارس؛ حتى يحس أبناؤنا أنهم لا يتعلمون لغةً أجنبية بل لغة حياتهم المألوفة لهم الرفيقة بهم، وتزول تلك الجفوة العتيدة بين الدرس والدارس، ويصير التعلم جهدًا ممتعًا ولا يعود كابوسًا ثقيلًا وعذابًا نكرًا، هنالك تكون هذه العامية المزدراة هي حبل نجاة الفصحى ومجددة دمائها وباعثتها إلى الحياة من جديد!


(١) أمين الخولي: دراسات لغوية، مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة، ١٩٩٦، ص ٩٥.
(٢) أسماء كتب تراثية تجمع ما فصح من كلام العامة، فتعلنه وتشجع استعماله.
(٣) مثلما رأينا في المعجم الذي أشرف عليه د. أمين علي السيد عن فصيح العامية.

<<  <   >  >>