أصواتها أو في ترتيب الكلمات بجملها، أو في صيغها، أو في طريقة النفي والإثبات، أو في طريقة الاستفهام والتعجب ونحو ذلك. (١)
[(٣) تشييء السليقة اللغوية]
حين يتعلم الطفل لغة أهله بالمحاكاة والمران، والمحاولة والخطأ، فإنَّه يحتشد ويُعمل ذهنه فيما يُنطق له ويركز فيما يقول، وإذا أخطأ فقد لا يعي أنه أخطأ حتى يُظهِره الكبارُ على خطئه، حتى إذا اكتمل تعلُّمه وتمت له السيطرة على لغته فإنه يتحدث بها من غير حاجة إلى احتشاد وتركيز وتيقظ، ودون وعي بخصائصها وتوجس من أخطائها، هنالك يقال إنه يتكلم ب «السليقة»، السليقة إذن هي تَمكُّن المرء من لغةٍ ما بحيث يتكلم بها عفويًّا وتلقائيًّا ودون التفات منه إلى قواعدها وضوابطها. يتحدث الطفل لغته الأم بالسليقة، وبوسع المرء أن يتمكَّن من لغةٍ أجنبية ويتكلمها بالسليقة إذا أولاها اهتمامًا متصلًا وثابر على تعلمها ولم ينقطع عن التدريب والممارسة.
يقول ابن خلدون: «اعلم أنَّ اللغات كلها ملكاتٌ بالصناعة؛ إذ هي ملكات في اللسان للعبارة عن المعاني وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها، وليس ذلك بالنظر إلى المفردات، وإنما هو بالنظر إلى التراكيب، فإذا حصلت الملكة التامة في تركيب الألفاظ المفردة للتعبير بها عن المعاني المقصودة ومراعاة التأليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال؛ بلغ المتكلم حينئذٍ الغاية من إفادةٍ مقصودة للسامع، وهذا هو معنى البلاغة، والملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال؛ لأن الفعل يقع أولًا وتعود منه للذات صفةٌ، ثم يتكرر فتكون حالًا، ومعنى الحال أنها صفة غير راسخة، ثم يزيد التكرار فتكون ملكةً أي صفةً راسخة. فالمتكلم من العرب حين كانت ملكته اللغةُ العربيةُ موجودةً فيهم يسمع كلام أهل جيله وأساليبهم في مخاطباتهم وكيفية تعبيرهم عن مقاصدهم، كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها فيُلقَّنها أولًا، ثم يسمع التراكيب بعدها فيلقنها كذلك، ثم لا يزال سماعهم لذلك يتجدد في كل لحظة ومن كل متكلم، واستعماله يتكرر إلى أن يصير ذلك ملكةً وصفةً راسخة ويكون كأحدهم. هكذا تصيرت الألسن واللغات من جيل إلى جيل
(١) د. إبراهيم أنيس: من أسرار اللغة، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الثامنة ٢٠٠١، ص ١٧٣.