للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والسمة الثانية للغة المشتركة: أنها لا تنتمي صفاتها أو عناصرها إلى بيئة محلية بعينها، بمعنى أن الخطيب باللغة المشتركة لا يكاد السامع يكشف عن بيئته المحلية؛ فاللغة المشتركة لغةٌ منسجمة موحَّدة لا يمكن أن تنتمي إلى بيئةٍ خاصة من بيئات الجزيرة العربية، فلا يحق لنا أن نقول مثلًا: إن اللغة المشتركة هي لغة قريش أو تميم أو غيرها من قبائل العرب، بل هي مزيج من كل هذا، تكوَّنت له شخصيته وكيانه وأصبح مستقلًّا عن اللهجات، وإن التمس هذا المزيج في نشأته بعض صفات هذه اللهجات بعد هضمه، من ذلك أن المشتركة العربية تحقق الهمز، بينما لهجة قريش نفسها تسهيل الهمز، ومن ذلك «أن شعر الشعراء من ربيعة لا يعرف ما اشتهر عن لهجتها من الكشكشة، وشعر الشعراء من تميم لا يعرف العنعنة»، (١) وفي ديوان الهذليين لا نكاد نجد ما عرف عن لهجة هذيل من فحفحة واستنطاء ونحو ذلك. (٢)

والصفة الثالثة للغة المشتركة: أنها ليست لغة سليقة، ومعنى السليقة أن تتكلم لغة من اللغات بغير شعور بما لها من خصائص، وباستحالة أن تخطئ فيها دون أن تدرك خطأك وتتداركه على الفور. وأكبر دليل على أن الفصحى لم تكن لغة سليقة لكل العرب، تلك الروايات الكثيرة التي تشير إلى وقوع اللحن من العرب، قبل الإسلام وبعده. إن صاحب اللغة الذي يتكلمها بالسليقة، كما يقول د. إبراهيم أنيس، يستحيل عليه الخطأ في ظواهر تلك اللغة دون أن يدرك أنه أخطأ؛ فالإنجليزي لا يخطئ في كلامه إلا إذا قسنا كلامه بمستوًى لغوي آخر فوق كلام الناس، ونحن في كلامنا بالعامية لا نخطئ، فإذا زل اللسان في لحظة ارتباك أو تلعثم رجعنا عن هذا الزلل في لمح البصر، وأدركنا أننا وقعنا فيه، ولا يُتصور وقوع الخطأ من صاحب السليقة اللغوية في أي ظاهرة من ظواهر لغته: في تركيب


(١) د. إبراهيم أنيس: مستقبل اللغة العربية المشتركة، القاهرة، معهد الدراسات العربية العالية، مطبعة الرسالة، ١٩٦٠، ص ١٢.
(٢) الكشكشة، وتُعزى إلى ربيعة ومضر (وإلى بكر أيضًا وبني عمرو بن تميم وناس من أسد) هي إبدال كاف المؤنثة في الوقف شينًا أو إلحاقها شينًا، مثل «مالش؟» بدلًا من «مالَكِ»، و «أُكرُمكِش» بدلًا من «أُكرِمكِ». والعنعنة، وتعزى إلى تميم وقيس وأسد ومن جاورهم، قيل إنها إبدال ألف أن المفتوحة عينًا، فتقول «عَنَّك» بدلًا من «أَنَّك». والفحفحة، وتعزى إلى هذيل، هي قلب الحاء عينًا، فتقول «عتَّى» مثلًا من «حتَّى». والاستنطاء، ويعزى إلى هذيل وسعد بن بكر والأزد وقيس والأنصار، هو جعل العين الساكنة نونًا إذا جاورت الطاء، فتقول مثلًا «أنطَى» بدلًا من «أعطى».

<<  <   >  >>