للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

من الجهة العلمية، وهو الموقف الذي اتخذه النحاة مع الأسف (ما هو كائن)، فأدى إلى اضطراب الدراسة وتعقد النحو، فتجد في المسألة الواحدة وجوهًا، وتجد لكل وجهٍ توجيهًا، وتجد لهذه الوجوه والتوجيهات سندها في اللغات واللهجات.

لقد اتُخذت اللهجات تُكأةً في النحو العربي لكثير من التفريعات التي تُتدارَك على القاعدة العامة أو تنقضها تمامًا، مما زاد من تعقيد النحو وصعوباته. قيل لأبي عمرو بن العلاء كيف تصنع فيما خالفتك به العرب وهم حجة؟ فقال: أعمل على الأكثر وأسمي ما خالفني لغات. وتفسير هذا المسلك العلمي هو فهم علمائنا للصلة بين الفصحى واللهجات، واعتبارهم الفصحى هي نفس اللغات المتعددة مما أطلقوا عليه أنه «كلام العرب»، ولا تمكن دراسة هذا الحشد الكبير المختلط إلا بهذه الطريقة، وهكذا جاء النحو العربي وفيه قواعد عامة ذات احتمالات ولغات تُتدارَك عليها أو تنقضها، مثال ذلك أن العرب بعامة تقف على المنصوب المنون بإبدال التنوين ألفًا، ولكن أبا الحسن قطرب وأبا عبيد والكوفيين ذكروا أن من العرب من يقف على المنصوب المنون بالسكون، فيقول «رأيت زيد»، وهي لهجة بعض فروع ربيعة. إن الفصحى المشتركة لم تحمل هذا ليشيع ويوفق عليه عرفها، ولكن النحاة حملوه ودرسوه من اللهجة، ووضعوا له قاعدةً تمثل ظاهرةً ضمَّها النحوُ العربي، ذاك الذي يُفترَض فيه أنه للفصحى أساسًا. (١)

[(٢) سمات اللغة المشتركة]

تتميز أي لغةٍ مشتركة بصفاتٍ معينة؛ الأولى: أنها فوق مستوى العامة، بمعنى أن العامة لا يستعملونها في خطابهم، وإذا سمعوا متكلمًا بها رفعوه فوق مستوى ثقافتهم، فاللغة المشتركة العربية التي نظم بها الشعراء وخطب بها الخطباء، لم تكن في متناول العرب جميعًا، بل كانت في مستوًى أرقى وأسمى مما يمكن أن يتناوله العامة، وحتى الإعراب الذي يعد أهم مميزات الفصحى لم تكن كل العرب تقدر عليه، روي عن ابن أبي إسحق: «العرب ترفرف على الإعراب ولا تتفيهق فيه.» وعن يونس: «العرب تشامُّ الإعراب ولا تحققه.» وعن الخشخاش بن الحُباب: «العرب تقع بالإعراب وكأنها لم تُرِدْ.» (٢)


(١) د. محمد عيد: المستوى اللغوي للفصحى واللهجات، عالم الكتب، ١٩٨١، ص ٦٢ - ٦٣.
(٢) د. رمضان عبد التواب: بحوث في فقه اللغة، جامعة عين شمس، القاهرة، بدون تاريخ، ص ٣٣.

<<  <   >  >>