للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الفصل الثالث نشأة اللغة توقيفٌ أم اصطلاح

ذهب العرب مذهبين في تفسير أصل اللغة:

الأول أنها «توقيف» (إلهام/ وحي) من الله، أي أن الله هو صانع اللغة. ويستند هذا الرأي إلى قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: ٣١). (١)

الثاني أنها «اصطلاح» (عُرف/ اتفاق/ تواضع/ تواطؤ)، بمعنى أن يصطلح اثنان أو أكثر من الناس على تسمية شيء بالاسم الذي يرتضونه ويتواضعون عليه هم ومن يليهم.

وبدا للعربي في ذلك الزمن أن ليس هناك احتمالٌ ثالث لهذين الاحتمالين؛ فقد كان سقف التاريخ البشري في إطاره الذهني وطيئًا لا يتعدى بضعة آلاف من السنين لا تسمح بتخلقٍ تلقائي لمثل هذا النظام الهائل - اللغة - فلم يكن بدٌّ من صانعٍ مباشر: إما الله (التوقيف)، وإما غيره (الاصطلاح). (٢) والحق أن هذا الإطار المعرفي كان يتلبس بالفكر اللغوي الغربي أيضًا: «وقد كان المدى الزمني لأي دراسة تاريخية للغات أقصر كثيرًا


(١) جاء في سفر التكوين: «والله خلق من الطين جميع حيوانات الحقول وجميع طيور السماء، ثم عرضها على آدم ليرى كيف يسميها، وليحمل كلٌّ منها الاسم الذي يضعه له الإنسان. فوضع آدم أسماءً لجميع الحيوانات المستأنسة ولطيور السماء ودواب الحقول» (التكوين، الإصحاح الثاني: ١٩ - ٢٠). وظاهر النص، كما ترى، أن الإنسان (آدم) هو صانع الأسماء.
(٢) يقول د. عبد الصبور شاهين في كتابه «في علم اللغة العام»: «فاللغة العربية هنا (عند الجاحظ) هي وحي من عند الله لتكون معجزة ودليلًا على نبوة إسماعيل، وهذا التصوير الميتافيزيقي العجيب من رجل كالجاحظ هو الذي يعكس لنا تفكير القدماء في نشأة اللغة أصلًا، حيث كانوا يعتقدون أن ذلك التكوين الغريب المذهل (أي اللغة) لا يمكن أن يكون نتيجة صنع الإنسان؛ فمن المؤكد أن الإنسان آنذاك لم يكن جديرًا في نظرهم بأن يُخلَع عليه هذا الشرف؛ وذلك لنقص فكرتهم عن كفاح الإنسان عبر القرون، مئاتها، بل آلافها؛ إذ كان التاريخ من بدايته عندهم لا يتعدى بضعة آلاف من السنين على حين تؤكد بحوث علم الإنسان، وبحوث الجيولوجيا أن الحياة الإنسانية على ظهر الأرض لا يقل عمرها عن مليونين ونصف المليون من السنين» (في علم اللغة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ١٩٨٨، ص ٦٩ - ٧٠).

<<  <   >  >>