الرد، وتجرح كل ما قيل منهم وكل ما سيقال. أنت، باختصار، أمام حَكمٍ من بيت اللغة، وشاهدٍ من أهلها.
[(٥) دفاع عن اللغة العامية (المحكية)]
لعله أهم مقالات الكتاب، أو المقال المفتاح؛ لأنه يفتح لنا الطريق إلى الإصلاح اللغوي الواقعي، مؤلمٌ هو في قراءته، لأنه يفتح جرحًا أيضًا، بل خراجًا لا مفر من فتحه قبل أن نتحدث عن أي إصلاح لغوي حقيقي.
ينبغي أن نعترف أن محكيتنا هي لغةٌ قائمة بذاتها، وأننا، من ثم، شعب «ثنائي اللغة» Bilingual! وأن التزمُّت وانغلاق باب الاجتهاد والتجديد عبر القرون هو ما أوصلنا إلى هذه الحال، لدينا لغةٌ طبيعية هي المحكية (العامية)، ولغةٌ أخرى، صناعيةٌ بمعنًى ما، هي ما يسمى الفصحى، لا يتحدث بها أحد في حياته اليومية، وإنما هي مقصورةٌ على الصحف والكتب والمؤتمرات والخطب المنبرية ونشرات الأخبار والأفلام التسجيلية، نسمعها، أو نكاد، كلغةٍ أجنبية، ونكتسبها كلغة أجنبية، ونكتبها كلغة أجنبية.
نحن شعبٌ معطوبٌ لغويًّا قبل أي عطب آخر، فالطبيعي في كل المجتمعات الناطقة أن تكون الفصحى والعامية امتدادًا ومتصلًا واحدًا فردًا، يتدرج من اللغة اليومية البسيطة إلى اللغة الرسمية المركبة تدرُّجًا سلسًا لا خلجان فيه ولا صدوع ولا فجوات، بحيث إن الطفل ليدرس في معهده تلك اللغة نفسها التي يتحدث بها في الطريق، ويقرأ ويكتب باللغة نفسها التي يدهش بها ويضحك، ويحلم بها ويحب، أما نحن فذِهْننا منفصمٌ مشطورٌ بين لغتين بينهما قطيعةٌ تاريخيةٌ وثأرٌ قديم، إن بين عاميتنا وفصحانا هوةً فاغرة، بحيث يصح أنهما لغتان منفصلتان، وأننا في واقع الحال شعب «ثنائي اللغة»، غير أنها ثنائيةٌ هوليةٌ شائهة: عاميتها هي المركبة المتطورة الحية الجريئة، وفصحاها هي الهزيلة الضامرة الذابلة المنطوية، وهي بهذا الوضع المقلوب ثنائية إفقارٍ لا إثراء، ربما لذلك لا نبدع ولا نضيف، ولا نعرف لذة العمق وعزاءه، ربما لذلك نبغض لغتنا ونضحك منها، ونطرب لكل أعجمي ألْكن، وننبطح لكي أجنبي أشقر، ونوشك أن نكفر بلغتنا ونعتنق لغة غيرنا ونكبرها ونتنفج بها ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا، هذا هو العطب الصميم، ولا أحسبنا تقوم لنا قائمة ما لم نقتحم هذه المشكلة ونرَ فيها رأيًا.