فإذا ما شبَّ هؤلاء عن الطوق وأرادوا أن يرتقوا بقدراتهم الاتصالية والتعبيرية فلن يعجزهم هنالك أن يجدوا الغطاء الرمزي اللازم، ستواكبهم لغتهم في تطورهم وترتقي بارتقائهم، وليست العربية فاشلةً في نقل العلوم، وإنما نحن من تحْكُمنا عقدة الفشل فنتردد في التعريب ونتهيب التجربة ونسوِّفها، لتبقى العربية في مجال العلوم ضامرةً هزيلة، وتحقق النبوءة ذاتها:«العربية عاجزةٌ عن نقل العلوم».
(٢) الترادف، غنًى أم ثرثرة؟
في مقالة «الترادف: غنًى أم ثرثرة؟» تجد تحليلًا عميقًا لنشأة الترادف في اللغة العربية واتساع مداه، ونقدًا سديدًا لأثره وجدواه، وأود أن أفيض بعض الشيء فيما أشار إليه المؤلف باقتضاب وهو يعرض لأسباب نشأة الترادف المفرط في اللغة العربية، أفيض في ذلك لا لشيء إلا لأنه يلقي الضوء أيضًا على نشأة العربية الفصحى بصفة عامة: إن من أسباب الترادف عملية جمع المادة اللغوية على أيدي قدماء النحاة.
لقد قام قدماء النحاة بالخلط بين اللهجات العربية جميعًا خلطًا أدى إلى اضطراب القواعد اللغوية بصورة تصل إلى حد التناقض، وقدموا لنا في النهاية وصفًا لا ينطبق على أي لهجةٍ من اللهجات التي كان يتحدث بها العرب في ذلك الوقت. لقد كانوا يحتالون لجمع المادة اللغوية من كل سبيل، بالارتحال إلى البادية، وباستقبال البدو في الحواضر والأخذ عنهم، وهم في ذلك الأخذ لم يفرقوا بين قبيلة وأخرى، أو بين فرد وآخر، أو بين النثر (وهو اللغة المعيارية المنضبطة) والشعر (وهو المدلَّل بالضرورات والرخص)، (١) ولم يفرقوا بين المثقفين والأجلاف، وربما أخذوا عن النساء (كذا) والصبيان والمجانين دون تفطُّنٍ منهم إلى وجود فوارق تركيبيةٍ ودلالية بين المستويات اللهجية ومستوى اللغة الفصحى، لعل هذا الخلط في الأخذ والتلقِّي كان من الأسباب التي أدت إلى اضطراب بعض القواعد، وإلى ظاهرة الترادف وكثرة المترادفات بدرجة غير معقولة، وإلى الاضطراب الواضح في أوزان الفعل الثلاثي وصيغه المختلفة، بل إن كثيرًا من المواد التي استندت إليها أحكام قدماء النحاة هو من اختراع هؤلاء النحاة أنفسهم، ومن
(١) انظر ما أجريناه من تعديل على هذا الرأي في فصل «الخلط بين مستوى النثر ومستوى الشعر».