للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

اللغة التي هي حق كل المؤسسات، وما بقي الحُقُّ خرِبًا فعبثًا نفكر باقتناء العطور، لا نهضة لنا في الشرق ما لم نحل معضلتي اللغة والتدوين.» (١)

وإذا كنا لا نتفق مع الأستاذ سعيد عقل في الحل الذي خلص إليه، فنحن نذكر له التفاته المبكر للمشكلة وإدراكه العميق لخطرها.

موت اللغات هو ألا تعود تستعمل.

وما تعانيه العربية اليوم ليس محلًّا للجدل بل للملاحظة.

ما تعانيه العربية اليوم أشبه بالموت السريري: لكأنها ماتت ونحن نتكتم الخبر ونحفظ حياتها اصطناعيًّا بمضخات التنفس والتقطير الوريدي.

وما أوصلنا لهذه الحال سوى سلفٍ أغلق باب الاجتهاد، وخلفٍ لجَّ في التزمُّت، ومجمعٍ تردد في العلاج، وأساتذة ترددوا في التعريب، ومرفقٍ تعليمي باع التعليم وأكل من خبز الهيكل، وشعراء اغتربوا وأغربوا وآثروا أن يكتبوا لأنفسهم لا للناس، وعقلٍ عربيٍّ عَقِم عن الإبداع وهو مشطورٌ بين فصحى لا يجيدها وعاميةٍ لا تجيده!

[(١) تشبيه دورة الحياة]

هذا جاثومٌ ما قصصته إلا لكي أنذر بحجم الخطر الذي يتهددنا، وحرج الموقف الذي نعيشه؛ فاللغة وسيط التفكير والحس والشعور والإبداع، وموت اللغة يعني موت هذه الأشياء جميعًا. على أن الأمر لا يعدو أن يكون «تشبيهًا» أو «مماثلة» (أنالوجي): فالحق أن اللغة «تُشبِه» الكائن الحي ولكنها ليست كائنًا حيًّا، وقد سبق لفلاسفة التاريخ أن شبهوا الحضارات بالكائن الحي وأخذوا ب «مماثلة دورة الحياة» Life Cycle Analogy، فارتكبوا مغالطة، وبلغ الغلو بالبعض أن يمتد بالتشبيه إلى تبرير الاستعمار! (٢) وفاته أن الشبه غير الهوية، وأن التشبيه وسيلة إيضاح لا برهان، وأن التشبيه قد ينطبق


(١) المصدر نفسه، ص ١٨٦.
(٢) تشبيه الحضارات بالكائن الحي تذخر به تفسيرات التاريخ ونظرياته، ففي محاولة إضفاء معنًى ما على مسار التاريخ تبزغ كل صنوف المقارنة. إن جميع الحضارات السالفة تشترك في أنها الآن ماضٍ وأنها كانت ذات يوم حضارات وأنها قبل ذلك لم تكن، ومن هذه الحقائق الثلاث النافلة المبتذلة خلص كثيرٌ من المؤرخين إلى «تشبيه دورة الحياة»: فالتعاقب البسيط: «غير حي ? حي ? لم يعد حيًّا» يستدعي مقارنة لا تقاوم بالكائن الحي، وقد بلغ الغلو بالبعض إلى أن يمتد بالتشبيه إلى تبرير الاستعمار: ذلك أن الحضارة حين تبلغ أشدها فمن الطبيعي أن تنزع إلى التكاثر بأن تنثر بذورها في أماكن بعيدة!

<<  <   >  >>