للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[(٣) علم اللغة الحديث ونشأة اللغة]

إن اختلافنا عن هذا السلف البعيد هو اختلاف «إطار معرفي» Paradigm (نموذج شارح) و «رؤية عالم» World-view، يقول الأستاذ أمين الخولي: «لكن ما يبدو لنا غريبًا لم يكن في منطق القوم على هذه الغرابة، فإنك لتعرف أنهم يرون أن الدنيا نصف، قد ذهب خير نصفيها: ويقررون أن الأول قد ذهب بالمعرفة كلها، كما ذهب بالخير كله، وأن أفضل القرون قد مضى منذ أكثر من عشرة قرون … فالنظام عندهم ليس ترقيًّا، بل هو تنزُّلٌ وتدهور، بعد كمال وفضل. ومن هنا تدرك أن أساس الخلاف فكري جوهري عام، يمتد إلى أشياء كثيرة، ولا يقتصر على اللغة، بل يمس النظرة الكبرى في سير الوجود كله لا سير اللغة فقط.» (١)

من الثابت الآن في ضوء اللغويات الحديثة وعلم الاجتماع الحديث «أن اللغة ليست إلا ظاهرة اجتماعية، وتلك الظواهر الاجتماعية لا تقوم إلا على غير ما تصوره الأقدمون من أمور عقلية منطقية، وأعمال صناعية تحكمية» (٢) «تلك الظواهر الاجتماعية ليست صناعة فرد بعينه أو أفراد بعينهم، ولا عمل جيل بذاته، ولا توجيه فيها لعقل الفرد، أو الإرادة الفردية، ولا تأثير له عليها، فلا هو يستطيع دفعها إذا أراد، ولا هو يستطيع صدها إذا شاء، وما هو ولا قومه مجتمعين بمستطيعين أن يقدموا من أمرها شيئًا أو يؤخروه، فلا هم يتدخلون تدخلًا إراديًّا في وجودها، ولا هم يسهمون في تنظيمها، ولا هم يختطون طريقها، وكل ما تتعرض له وما يواجهها من دوافع أو موانع، وما ينالها من تغير وتحول، أو توسع وتبسط، أو توقف وتعطل، لا يكون شيء منه إلا من نتائج العقل


(١) مشكلات حياتنا اللغوية، ص ٤٠ - ٤١.
(٢) «تتميز الظواهر الاجتماعية، كما أوضح إميل دوركايم، بخصائص رئيسية ثلاث: (١) أنها تتمثل في نظمٍ عامة يشترك في اتباعها أفراد مجتمعٍ ما، ويتخذونها أساسًا لتنظيم حياتهم الجمعية، وتنسيق العلاقات التي تربطهم بعضهم ببعض والتي تربطهم بغيرهم. (٢) أنها ليست من صنع الأفراد، وإنما تخلقها طبيعة الاجتماع، وتنبعث من تلقاء نفسها عن حياة الجماعات، ومقتضيات العمران، وهذا هو ما يعنيه علماء الاجتماع إذ يقررون أنها من نتاج «العقل الجمعي». (٣) أن خروج الفرد على أي نظام منها يلقى من المجتمع مقاومة تأخذه بعقاب مادي أو أدبي، أو تلغي عمله وتعتبره كأنه لم يكن، أو تحول بينه وبين ما يبتغيه من وراء مخالفته وتجعل أعماله ضربًا من ضروب العبث العقيم … وهذه الخواص الثلاث تتوافر في اللغة على أكمل ما يكون» (د. علي عبد الواحد وافي، اللغة والمجتمع، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة، ١٩٧١، ص ٣ - ٤).

<<  <   >  >>