للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يقول العقاد في كتابه «أنا»: «كما لاحظ بحق أحد أصدقائي، حين علم مرةً باعتذاري من تلبية الدعوة إلى كثير من السياحات، وبعضها بغير نفقةٍ على الإطلاق.» (١) حين كتب العقاد: «اعتذاري من تلبية الدعوة» وليس «اعتذاري من عدم تلبية الدعوة»، كان يطير بجناحٍ مضري يعبر كل لفظٍ نافلٍ، ويكره الثقل النغمي وكثرة المضافات، ويثق في فطنة سامِعِه، ويحذف كل ما دلَّت عليه القرينة، بينما ظل هواة قل ولا تقل يعثرون عِثارًا أرضيًّا ويَعكزون على عُكَّازاتٍ أرسطيةٍ ويدبُّون دبيبًا!

[نلعب في الوقت الضائع]

إذا كانت اللغات جميعًا لغاتٍ تمشي فإن العربية لغةٌ تطير!

قريب من ذلك أيضًا تعبير «يلعب في الوقت الضائع»، ونعلم جميعًا أن الصواب «يلعب في الوقت بدل الضائع»، بعد تدخل المعالجة «المنطقية» للمسألة، وإفسادها لجمال التعبير الأصلي «في الوقت الضائع» الذي نحسُّ له وقعًا شعريًّا مؤثرًا، (٢) تقف الذائقة غير قريرة: ثمة قيمةٌ أهدرت … شيءٌ من قلب اللغة قد احتُرِش … شيء من سر العربية أُهين، لكأن الكيان المجازي قد لم متاعه ورحل!

قال تعالى: {هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}، لا بدله أو نتاجه بل هو، ولقد أهدرنا وقتًا (ضائعًا) وها نحن نلعبه (واحتذاءً بالآية: هذا ما أضعتم من وقتٍ فالعبوا ما أضعتموه)، بل انظر إلى قوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} ولم يقل «عنبًا» (باعتبار ما سيكون).

لكي نفهم الظاهرة اللغوية فإن علينا أولًا أن نتعوَّذ من وسواس المنطق: اللغة التي تجيز أن نقول: «عامر»، ونعني «معمور»، و «فاقد» ونعني «مفقود»، ونقول: «لا عاصم»، ونعني «معصوم»، ونقول: «كاسية» ونعني «مكسوة»، ونقول: «لا غني ولا فقير»، و «لا حلو ولا حامض»، و «لا شرقية ولا غربية»، ونقول لصبينا: اذهب إلى السوق وهات عنبًا حامضًا، ونقول: أكل المال، شرب الكأس، قتل الوقت (لهوًا)، قتل الأمر (بحثًا)، تركت


(١) المصدر نفسه، ج ١، ص ٣٦٨.
(٢) المصدر نفسه، ج ١، ص ١٢٣.

<<  <   >  >>