للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لمن «كان» بعدي، والموعد الله - مثل هذه اللغة لا تؤتى بالمنطق الأرسطي ولا الإقليدي، بل بمنطقها، هي لغةٌ تتكئ على فهم المخاطب وتلتئم بمعقوله وتثق في ذكائه. يقول الجاحظ: «للعرب إقدامٌ على الكلام، ثقةً بفهم المخاطب من أصحابهم عنهم.»

كم ذا أضرَّ باللغة وآذاها هواة قُلْ ولا تقل، وها هو حصاد زرعهم: ناسٌ طيبون أصابهم القنوط، فانفضوا عن العربية (وفي القلب ثأرٌ كظيم)، ولم يعودوا يقدرون على صواب ولا على خطأ.

يقول د. محمد كامل حسين «إن اللغويين يخطئون حين يظنون أن الإضافة إلى اللغة إضعاف لها، وأن المحافظة عليها بتقييدها، والمحافظة على لغة ما لا تكون إلا بجعلها مطابقة لتفكير أهلها، وترك الحرية لكتابها أن يزيدوا ما دلهم عليه الذوق والحاجة، وخطِئ اللغويون في إسرافهم في تخطئة الناس، وجدلهم حول ما هو خطأ، والجدل حول صحة كلمة «افتكر» و «احتار» و «اعتاد» لا داعي له، فكلها صحيحة، والكاتب المتأنق يختار «تفكَّر» و «حار» و «تعود» حين يقتضي مستوى أسلوبه أن يختار أرشق الألفاظ وأفصحها، ويجب أن نقدر أن عهد تحكم الأجرومية في اللغة العربية قد انقضى أو كاد، وأن علينا أن نسارع إلى تنظيمٍ يوائم عصرنا، والتفكير اللغوي الحديث قوامه الوضوح والدقة، فإن لم نفعل فسيقوم عهد اللغة الجديد على الفوضى والاضطراب وتحكم من لا ذوق لهم ومن لا علم لهم بأصول اللغات والأساليب.» (١)

ورحم الله شيخنا أمين الخولي، القائل في خاتمة بحثه «لسان العرب اليوم» أمام المجمع: «وقد بدا من واقع التاريخ أن تتبع الصواب وإعلانه أجدى من تتبع الخطأ وإعلانه، وإلى هذا التصويب صار الأمر أخيرًا، كما رأينا فهو سبيل التقريب أو التوحيد، ورحم الله أبا حنيفة، في قياسه مع حجامه، حين قال له الحجَّام: إن تتبع الأبيض من الشعر يكثره، فقال أبو حنيفة: تتبع مواضع السواد لعله يكثر، وقد تتبعوا مواضع الغلط فاستفحل الأمر فيه، فهلا نتتبع مواضع الصواب فيشيع ويغلب، وذلك ما تشهد به تجارب المصلحين والمربين … تلك مواقف عملية، إن وافقتم عليها فبها، وإلا فواقع الحياة أغلب.» (٢)


(١) عباس محمود العقاد: أنا، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، القاهرة، ١٩٩٦، ص ١٤٢.
(٢) للروائي مثلًا أن يقول: « … كهلٌ في الخمسين، يريد أن يتصابى في الوقت الضائع.»

<<  <   >  >>