للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

(١)

وأخيرًا يعرض د. أنيس ل «النفي اللغوي»، فيقول: إن للغات منطقها الخاص، والنفي في اللغات رغم أنه معنًى عقلي مشترك بين جميع العقول، عبرت عنه اللغات بسبل وأساليب لا تطابق دائمًا الأساليب المنطقية أو الرياضية، من ذلك أن قانون عدم التناقض لا يسري على التعبير اللغوي، فاللغة لا تمنع المتحدث من أن يقول إن فلانًا غني وغير غني في آن واحد، أو وطني وغير وطني، وفقًا لمعنًى معين أو تفسير ما، وفي الذكر الحكيم: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ}، لم يجد المفسرون أي صعوبة في فهم ذلك؛ فالله هو الظاهر لأن آثاره بادية للعيان، وهو الباطن لأنه سبحانه لا تدركه الأبصار، وربما كان من أوضح الفروق بين النفي اللغوي والنفي المنطقي أن نفي النفي ينتج الإثبات في المنطق، ولكنه من الناحية اللغوية ليس إلا تأكيدًا للنفي! فاللغات حين تكرر الأداة في موضع ما من الجملة إنما تهدف بهذا إلى توكيد فكرة النفي، لا إلى الإثبات، مثال ذلك قول العامة من الإنجليز: I haven't done nothing، ومثله كثير في جميع اللغات قديمها وحديثها، ذلك أن للغات منطقها الخاص، ولأساليبها طرقها الخاصة التي يجب عرضها وتفسيرها لا في ضوء المنطق العام، بل في ضوء المنطق اللغوي والاستعمال اللغوي، وفي ضوء العوامل النفسية التي قد يتأثر بها المتكلم والسامع حين التعبير عما يدور بخلد كل منهما، بأسلوب لغوي خاص. (٢)

[(٢) منهج البحث اللغوي]

اللغة ظاهرة اجتماعية، شأنها شأن العادات والتقاليد والطقوس والملابس وطرائق المعيشة، ومن ثم فإن المنهج المناسب لدراستها هو المنهج الاستقرائي الوصفي: ملاحظة الوقائع الجزئية، ثم استخلاص المبادئ العامة التي تنتظمها، وليس المنهج الاستنباطي المعياري الذي يتجه من العام إلى الخاص، ويفرض المبادئ العامة، من فوق؛ ليضمن صواب الفكر واتساقه مع نفسه. يقول د. تمام حسان: «اللغة موضوع من موضوعات الوصف، كالتشريح، لا مجموعة من القواعد كالقانون. والباحث في تشريح الجسم الإنساني لا يُتوقع منه أن يعبر عن أفكاره بقوله يجب أن تكون العضلة الفلانية بهذا الوضع، أو يجب أن يكون العظم الفلاني بهذا الحجم أو الصورة، وكذلك الباحث في


(١) المرجع نفسه، ص ١٣٩ - ١٤٧.
(٢) المرجع نفسه، ص ١٤٧ - ١٥١.

<<  <   >  >>