للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بعد الماضي - الحاضر - قبل المستقبل - المستقبل - بعد المستقبل. وكثير من اللغات الهندوأوروبية تحرص على التعبير عن معظم تلك الأزمنة. وفي الإنجليزية على سبيل المثال نجد صيغًا محددة لهذه الأزمنة السبعة جميعًا، أما في الفصيلة السامية فنرى أن معظم لغاتها قد اتخذت صيغًا قليلة العدد للتعبير عن تلك الأزمنة السبعة في صورة غامضة بعيدة عن التحديد المنطقي. ويقسم النحاة العرب الأزمان إلى ثلاثة: الماضي والحالي والمستقبل، مكتفين بتلك الأزمنة الأساسية، ولما رأوا للفعل ثلاث صيغ فقد اختصوا كلًّا منها بزمن من تلك الأزمنة الثلاثة، وجعلوا الفعل المسمى بالماضي لكل حدث مضى وانتهى أمره، إلا أن دخول «قد» على هذا الفعل يقرِّبه من زمن الحال، وجعلوا الأمر للزمن الحالي، وخصصوا المضارع بالمستقبل ولا سيما حين يتصل بالسين أو سوف، وفي قليل من الأحيان جعلوه للحال أيضًا، وحين رأوا الخلل يتسرب إلى تقسيمهم من نواحٍ عدة، بدءوا كعادتهم يُحمِّلون الكلام العربي ما ليس منه، ويتأوَّلون من النصوص الصحيحة ما ليس بحاجة إلى تأويل أو تخريج، فإذا استُعمِل الماضي مكان المضارع قالوا لحكمةٍ أرادها المتكلم أو الكاتب، وإذا استُعمِل المضارع مكان الماضي التمسوا في هذا نكتةً بلاغية هللوا لها وكبروا، وما كان أغناهم عن كل هذا التعسف لو أنهم نظروا إلى صيغ الفعل وأساليبها بعيدًا عن الفكرة الزمنية، من ذلك ما جاء في الأثر من أن المضارع قد يُستعمَل مكان الماضي، والعكس أيضًا، مثل قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} أي سيأتي، وقوله: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} أي تلت، ومثل: {وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا} أي ولا يزال … إلخ، ولا شك أن ربط الصيغة بزمن معين يحملنا في العربية على كثير من التكلف والتعسف في فهم أساليبها، ومن الواجب أن نفصل بينهما، وأن ندرس أساليب الصيغ مستقلة عن الزمن، دراسةً لغوية لا منطقية؛ لندرك ما فيها من جمال وحسن …

وفعل الشرط وجوابه قد يكونان مضارعين، وقد يكونان ماضيين، وقد يكون الأول ماضيًا والثاني مضارعًا! واستعمالات أخرى مثل «بعتك الدار» أي أبيعك، و «رحمك الله» أي يرحمك، وغير ذلك من أساليب العربية، وفي العبرية أسلوب شائع يستعمل الماضي مكان الأمر مثل: «اذهب وقلت لهذا الشعب»! وصفوة القول أن اللغات بوجه عام قد سلكت طرقًا متباينة في ربطها بين الزمن والصيغ، وأن سلوكها وإن كان واضحًا كل الوضوح من الناحية اللغوية، لا يمت للمنطق العام بصِلةٍ وثيقة.

<<  <   >  >>