للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

«إن «الكينونة»، تبعًا لمنطق اللغة العربية، هي في الوجود الذهني، والوجود الذهني متضمَّن في كل قضية صادقةً كانت أو كاذبة، ومن أجل ذلك وجدت اللغة العربية من نافلة القول أن تؤكد هذا الوجود بفعل الكينونة (الذي ليس في الحقيقة فعلًا): فهذه اللغة ترى أن كل ما يعرض للذهن، كل فكر، «كائن»، وهذا يصير بديهيًّا لمجرد كونه مفكَّرًا فيه. وها هنا مزية الذهن على المادة. إن الفلسفة الديكارتية التي تبدأ بالكوجيتو، ومنه تستخلص التمييز الحاسم بين النفس والبدن، تسير سيرًا مطِّردًا في الطريق الذي رسمته فلسفة اللغة العربية، وإن شئنا قلنا: إن اللغة العربية «مثالية» قبل مثالية ديكارت بمئات السنين، والفلسفة الديكارتية تجد ولا ريب سندًا لها راسخًا في مطالب اللغة العربية التي تفترض الوجود في الأذهان تحت كل فعل من أفعال العقل، وهي بهذا تقيم صدارة الفكر على كل ما عداه.» (١)

(٨) لغة تحتضن منهجًا

يقول د. عثمان أمين في كتابه «فلسفة اللغة العربية»: «فقد أظهرتنا بحوث الأستاذ لوي ماسينيون على أن اللغة العربية قد امتازت بخصائص قلَّ أن نجد لها مثيلًا في اللغات الأخرى؛ ففي حين أن اللغات الهندوأوروبية إنما جعلت للتعبير عن نظام العالم الخارجي، نجد اللغة العربية وكأنها هي لغة التأمل الداخلي؛ تأمل الفكر والروح. العربية «تملك ديالكتيك المعجزة» التي ترنو إلى الأبدي، وتصرف النظر عن المتغير وعن كل ما هو زائل، إن في العربية استعدادًا للرؤية الجوانية يتذوقه من نشئوا على التحدث بها، وفي العربية، بفضل تركيبها الداخلي وطراز الخلوة التي توحي به، قدرة خاصة على التجريد والنزوع إلى الكلية والشمول، ومن هنا كان للعرب الفضل في استكشاف رموز الجبر وصيغ الكيمياء والمسلسلات الحسابية. ويذكر ماسينيون أن «واحدًا من الأوروبيين المساكين» قال له مرة في معرض الزراية على العرب: «ليس لهؤلاء الناس أدب» فأجابه: «لم نقل في ثلاثمائة جملة ما يمكن أن يُقال في سطر واحد؟»، يقول ماسينيون: «إن الشعوبية المتزمِّتة، شعوبية دولة إسرائيل الجديدة، لا تؤمن بشيء قدر إيمانها بلغتها العبرية، وإن مدارسها الأولية تعلِّم العبرية وفقًا للإعراب العبري التقليدي المنقول عن


(١) فلسفة اللغة العربية، ١٠١ - ١٠٢.

<<  <   >  >>