للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

من السواء النفسي والاجتماعي أن يتحدث كل قومٍ بلغتهم، وأن يتحدث كل فرد بلغته، مثلما يزفر بصدره ويصرخ بفمه ويمشي بقدميه، وإن قومًا يجتمعون لكي يتحدثوا بلغةٍ غريبة لا يجيدونها هم قومٌ بلغ بهم الشذوذ والضعة والهوان مبلغًا عظيمًا. ليست لهم هذه اللغة التي يرتضخونها (١) وإنما لآخرين هم الذين يبدعونها ويطوِّرونها ويعدِّلونها ويغيِّرونها، وهي تتفتق من شئونهم وشجونهم، وتتخلق من أغوار تاريخهم وتضاريس إقليمهم ونزوات طقسهم، وتتحلب من ميازيب أزقتهم ومسام جلودهم وأطراف أناملهم، التنفج بلغة الغير إثم جماعيٌّ لا يمر بغير عقاب، وعقابه مزيدٌ من التبعية والدونية والنقص، وشلل الإرادة وعقم الخواطر.

للتعريب فوائد ليس أقلها استرداد الهوية واستعادة الثقة وانطلاق الإبداع، «خذ أطفالنا في المدارس الأجنبية مثلًا، خذ ما يدرسون ثم ما يصلهم من خلال المتاح في وسائل الإعلام، تجدهم يبرمجون بأبجديةٍ بعيدة عن خبراتهم الذاتية، فيضطرون إلى أن يتشكلوا تبعًا لها، وليس تبعًا لما يعيشونه من واقع تركيبهم اللغوي المتجذر، فيترتب على ذلك نوعٌ مقابل من الاختزال والتشويه، إذ يتشكل الوعي مائعًا مهتزًّا ومغتربًا عن أصله بما لا يسمح بإضافة أو إبداع.» (٢)

[(٤ - ٢) جذور عقدة النقص]

«بدأت محنة هذه اللغة العظيمة مع العصر العباسي الثاني حين كُتب النصرُ للمعسكر الداعي إلى التشبث بالقديم وعدم الحيدة عنه، على المعسكر الداعي إلى التجديد والتطوير والمرونة، بفضل قوة اتصال الأول بالخلفاء وكثرة الأتباع والأشياع ولجوئه إلى المكر؛ إذ صبغ دعوته صبغةً دينية. وقد أثرت هذه الدعوة تأثيرًا ضارًّا لا في اللغة العربية فحسب، بل وفي الأدب العربي كله، وفي تكييف العقلية العربية. والغريب الشائق أن الغالبية العظمى من أصحاب الاتجاه المحافظ الرافض للتطوير والمرونة كانت من الأعاجم المستعربين، فالأعجمي إذا استعرب كان قصارى همه وغايته أن يصل فنه إلى


(١) حسام الخطيب: اللغة العربية - إضاءات عصرية، القاهرة، ١٩٩٥، ص ٤.
(٢) إبراهيم اليازجي: اللغة والعصر، منشور ضمن كتاب «حصاد الفكر العربي الحديث، في اللغة العربية»، إعداد لجنة من الباحثين، مؤسسة ناصر للثقافة، بيروت، ١٩٨١، ص ٢٩٧ - ٢٩٩.

<<  <   >  >>