لكي ننفي هذا التفضيل اللاهوتي للعربية (ولكل لغة) فمن الأقرب والأيسر أن نستشهد بواحد من قدامى العلماء الأجلاء أنفسهم هو ابن حزم، القائل في «الإحكام في أصول الأحكام»: «وقد توهم قوم في لغتهم أنها أفضل اللغات، وهذا لا معنى له؛ وقد قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}(إبراهيم: ٤)، وقال:{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}(الدخان: ٥٨)، فأخبر تعالى أنه لم ينزل القرآن بلغة العرب إلا ليفهم ذلك قومه عليه السلام لا لغير ذلك، وقد غلط في ذلك جالينوس فقال: إن لغة اليونانيين أفضل اللغات؛ لأن سائر اللغات إنما هي تشبه إما نباح الكلاب وإما نقيق الضفادع. قال علي: وهذا جهلٌ شديد؛ لأن كل سامع لغةٍ ليست لغته ولا يفهمها فهي عنده في النصاب الذي ذكر جالينوس، ولا فرق … وقد قال قومه: العربية أفضل اللغات لأن بها نزل كلام الله تعالى، قال علي: وهذا لا معنى له؛ لأن الله عز وجل قد أخبرنا أنه لم يرسل رسولًا إلا بلسان قومه، وقال تعالى:{وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ}(فاطر: ٢٤)، وقال تعالى {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ}(الشعراء: ١٩٦)، فبكل لغة قد نزل كلام الله ووحيه، وقد أنزل التوراة والإنجيل والزبور وكلم موسى عليه السلام بالعبرانية، وأنزل الصحف على إبراهيم عليه السلام بالسريانية، فتساوت اللغات في هذا تساويًا واحدًا.» (١)
[(٢ - ٢) ملاحظات واستدراكات]
«الاصطلاح» عند قدماء النحاة يعني تواطؤ حكماء، من البشر أو غير البشر، وهو مصطلح يختص بنشأة اللغة، وهو ضد «التوقيف». أما «الاصطلاح» أو «المواضعة» Convention في فلسفة اللغة الحديثة، والفلسفة الغربية بعامة، فهو مصطلح يختص بطبيعة اللغة، ويعني العلاقة الاتفاقية التعسفية الاعتباطية بين «الدال» Signifier و «المدلول» Signified، وهي ضد العلاقة الضرورية أو الطبيعية بين الدال والمدلول (Naturalism)، وقد لزم التنويه بذلك حتى لا يقع القارئ في الخلط ويظن أن قدماء النحاة كانوا يعنون بالاصطلاح ما يعنيه
(١) الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم، في: دفاتر فلسفية - ٥: اللغة، إعداد وترجمة: محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، المغرب، ط ٢، ١٩٩٨، ص ٥٠.