للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يقول ابن جني في الخصائص: «إذا كثر على المعنى الواحد ألفاظٌ مختلفة فسُمعت في لغة إنسانٍ واحد فإن أحرى ذلك أن يكون قد أفاد أكثرها أو طرفًا منها، من حيث كانت القبيلة الواحدة لا تتواطأ في المعنى الواحد على ذلك كله، وذلك كما جاء عنهم في أسماء الأسد والسيف والخمر وغير ذلك، وكما تنحرف الصيغة واللفظ واحد، نحو قولهم: هي رَغوة اللبن، ورُغوته، ورِغوته، ورُغاوته، ورِغاوته، ورُغايته … وكقولهم: جئتُه من عَلُ، ومن عِل، ومن علا، ومن عَلْوُ، ومن عَلْوَ، ومن عَلْو، ومن عُلُوٍّ، ومن عالٍ، ومن مُعالٍ، فإن أرادوا النكرة قالوا: من علٍ، وههنا من هذا ونحوه أشباهٌ له كثيرة، وكلما كثرت الألفاظ على المعنى الواحد كان ذلك أولى بأن تكون لغاتٍ لجماعات، اجتمعت لإنسانٍ واحد، من هنا ومن هنا، ورَوَيْتُ عن الأصمعي قال: اختلف رجلان في الصقر؛ فقال أحدهما الصقر (بالصاد)، وقال الآخر السقر (بالسين)، فتراضيا بأول واردٍ عليهما فحكيا له ما هما فيه، فقال: لا أقول كما قلتما، إنما هو الزقر.» (١)

لقد وقع النحاة في خطأ منهجيٍّ كبير إذ خلطوا بين اللهجات ولم يميزوا بين هذه اللهجات؛ فاضطرهم ذلك في كثير من الحالات إلى التأويل والتخريج الذي أظهر اللغة بمظهر الاضطراب، وخلطوا بين مستوى المشتركة وبين اللهجات معتبرين أن المشتركة تشمل لغات هذه القبائل المتعددة؛ فأدى ذلك إلى بناء قواعد المشتركة (الفصحى) على ظواهر لهجية، وإلى اختلاف الآراء حول المسائل اعتمادًا على ما ورد من بعض القبائل، وإلى تضخم المعجمات القديمة واشتمالها على الحوشي المتروك، وإلى ظاهرة الترادف المفرط، والاشتراك، والأضداد، وكثرة الشذوذ، واضطراب أوزان الفعل الثلاثي وصيَغه المختلفة.

[(٦) مسألة الثقة بالرواية]

من أوجه النقد الشهيرة التي استهدفت عملية جمع اللغة عدم توافر الثقة بالرواة ثقةً تشابه ما توافر لرواية الحديث، فقد قيل إن بعض اللغويين كان غير موثوقٍ به، كأن يكون غير عدل، أو يروي عن صبيان، أو عن مجانين، أو كان راوية من أهل الأهواء، وكان بعض الجامعين لا يتحرى الصدق بل يتيح لنفسه أن يضع، وقد ورد مثل هذا النقد على أقلام


(١) الخصائص، الجزء الأول، ص ٣٧٤ - ٣٧٥.

<<  <   >  >>