للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

باقون على فصاحتهم ولم يعترض شيءٌ من الفساد للغتهم لوجب الأخذ عنهم كما يؤخذ عن أهل الوبر، وكذلك أيضًا لو فشا في أهل الوبر ما شاع في لغة أهل المدر من اضطراب الألسنة وخبالها، وانتقاض عادة الفصاحة وانتشارها، لوجب رفض لغتها وترك تلقي ما يرد عنها، وعلى ذلك العمل في وقتنا هذا؛ (١) لأنا لا نكاد نرى بدويًّا فصيحًا، وإن نحن آنسنا منه فصاحةً في كلامه، لم نكد نعدم ما يُفسد ذلك ويقدح فيه وينال ويغض منه»، (٢) ويقول السيوطي في «الاقتراح»: «ومما افتخر به البصريون على الكوفيين أن قالوا نحن نأخذ اللغة عن حَرَشَة الضِّباب وأَكَلَة اليرابيع، وأنتم تأخذونها عن أكلة الشواريز وباعة الكوامخ.»

يختلف البصريون عن الكوفيين في منهج البحث والمعيار الذي حددوه للمصدر اللغوي الذي يُؤخذ عنه؛ لذا اختار البصريون قبائل بعينها للأخذ عنها، وتركوا قبائل أخرى باعتبارها فاسدة اللغة، وأسموا لغاتها باللغات الشاذة التي لا يُؤخذ بها، على حين كان الكوفيون يوثقون كل القبائل على حدٍّ سواء، ويحتجون بكل ما يؤخذ عنها، ويؤسسون عليه نحوهم وقواعدهم.

يرى د. رمضان عبد التواب أن «الفرق بين اللغة المشتركة واللهجات لم يكن واضحًا في أذهان اللغويين في هذه الحقبة من التاريخ وضوحًا تامًّا؛ ولذلك سعى البصريون للأخذ عن قبائل معينة، وهدفهم الوصول إلى تقعيد اللغة الأدبية المشتركة، غير أنَّهم لم يُفرِّقوا فيما أخذوه عن هذه القبائل بين تلك اللغة المشتركة ولهجات الخطاب، ومن هنا جاء الخلط والاضطراب، ورأيناهم يؤوِّلون كل مثال شذ عن قواعدهم. ولم يكن الكوفيون أقل منهم حظًّا في الاضطراب والخلط؛ لأنَّهم أخذوا اللغة عن كل العرب، ولم يفرقوا كذلك بين اللغة المشتركة ولهجات الخطاب.» (٣) ويقول في حديثه عن المعاجم العربية: «تخلط هذه المعاجم كثيرًا بين مستوى العربية الفصحى واللهجات القديمة، في اللفظ والدلالة، بلا إشارة إلى ذلك في الكثير من الأحيان، مثل: السِّراط والصِّراط والزِّراط، بمعنى الطريق مثلًا، وكذكرها لكلمة «العجوز» مثلًا أكثر من سبعين معنى، من بينها: الإبرة، والجوع، والسمن، والقبلة، واليد اليمنى، فمن المحال أن تكون هذه المعاني جميعًا مستعملةً في الفصحى.» (٤)


(١) القرن الرابع الهجري.
(٢) الخصائص، الجزء الثاني، ص ٧.
(٣) د. رمضان عبد التواب: بحوث في فقه اللغة، ص ٦٠.
(٤) المرجع السابق، ص ١٣٩.

<<  <   >  >>