للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[(١ - ٦) عوامل داخلية في ذات اللغة]

إن بنية اللغة ذاتها، متنها وأصواتها وعناصر كلماتها ودلالاتها وقواعدها، تنطوي على خصائص تعمل هي نفسها في صورةٍ آلية على التطور اللغوي وعلى توجيهه وجهةً خاصة، إنه الطابع «الكموني» أو «المُحايث» Immanent لل «بنية» Structure الذي ألحَّ عليه البنيويون واضطلع جيل دولوز بتبيانه: إن كل ما يطرأ على «البنية» من أحداث أو عوارض لا يقع لها «من الخارج»، وإنما ينبع مما تنطوي عليه البنية ذاتها من ميولٍ كامنة واتجاهات باطنة تكون هي المسئولة عن كل ما يعرض لها من تغيرات. (١)

من عوامل تطور أصوات اللغة تفاعل أصوات الكلمة بعضها مع بعض، وموقع الصوت من الكلمة، وتناوب الأصوات وحلول بعضها محل بعض، فالأصوات الساكنة تتفاعل فيما بينها، فيتجاذب المختلف ويتنافر الشبيه (مثلما تسلك الشحنات الكهربية!) فإذا تجاور في الكلمة صوتان مختلفان أو تقاربا في المكان فقد يتحول أحدهما إلى صوت الثاني، مثل كلمة «شمس» التي تحولت في بعض اللهجات العامية إلى «سمس» (بل تحولت في بعض لهجات الصعيد إلى «شمش»)، وفقًا لقانون «المماثلة» أو «التشاكل» Assimilation. وإذا تجاور صوتان متماثلان أو تقاربا في المكان فقد يميل اللسان إلى ضروب من التغيير الذي يرمي إلى الفرار من الثقل، ذلك أن اللسان يتعثر إذا اضطر إلى نطق حروف متشابهة تتكرر وتتتابع، فالصوتان المتماثلان يحتاجان إلى جهد عضلي في النطق بهما في كلمة واحدة، ولتيسير هذا المجهود العضلي يقلب أحد الصوتين صوتًا آخر أو يحذفه، وفقًا لقانون «المخالفة» Dissimilation، وقد فطن قدماء اللغويين لهذه الظاهرة وكانوا يعبرون عنها أحيانًا ب «كراهية التضعيف»، أو «كراهية اجتماع حرفين من جنس واحد» أو «استثقلوا اجتماع المثلين» … إلخ. (٢)

وقد وُجد أن موقع الصوت في الكلمة يعرضه لصنوفٍ من التطور والانحراف: فوقوع أصوات اللين في آخر الكلمة يجعلها في الغالب عرضة للسقوط، ويؤدي أحيانًا إلى تحولها إلى أصواتٍ أخرى، من ذلك ما لحق بالحركات (الفتحة والكسرة والضمة)


(١) اللغة والمجتمع، ص ٥٥ - ٥٨.
(٢) د. أحمد مختار عمر: علم الدلالة، عالم الكتب، القاهرة، ط ٧، ٢٠٠٩، ص ٢٤٢.

<<  <   >  >>