للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لم يأخذ النحاة بلهجات القبائل كيفما اتفق، بل تواصوا على الأخذ من قبائل بعينها، هي «القبائل الموثقة» التي يصح الأخذ عنها، وعلى ترك قبائل أخرى؛ لفساد لغتهم. وللفارابي (ت ٣٥٠ هـ) نصٌ مشهور في ذلك وَرَدَ مختصرًا جدًّا في كتاب «الحروف»، ومفصَّلًا في «الاقتراح» و «المزهر» للسيوطي، يقول الفارابي: «والذين عنهم نُقلت اللغة العربية، وبهم اقتُدي، وعنهم أُخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب هم قيس وتميم وأسد، فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أُخذ ومعظمه، وعليهم اتُّكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف، ثم هُذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم.

وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضري قط، ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم التي تجاور سائر الأمم الذين حولهم، فإنه لم يؤخذ لا من لخم ولا من جذام؛ فإنهم كانوا مجاورين لأهل مصر والقبط، ولا من قضاعة ولا من غسان ولا من إياد؛ فإنهم كانوا مجاورين لأهل الشام، وأكثرهم نصارى يقرءون في صلاتهم بغير العربية، ولا من تغلب والنمر؛ فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونانية، ولا من بكر؛ لأنهم كانوا سكان البحرين مخالطين للهند والفرس، ولا من أزد عمان لمخالطتهم للهند والفرس، ولا من أهل اليمن أصلًا، لمخالطتهم للهند والحبشة، ولولادة الحبشة فيهم، ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة، ولا من ثقيف وسكان الطائف؛ لمخالطتهم تجار الأمم المقيمين عندهم، ولا من حاضرة الحجاز؛ لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدءوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم وفسدت ألسنتهم.»

تتصف القبائل الموثقة بأنهم يعيشون في وسط الجزيرة العربية بحيث تحققت لهم العزلة، والعزلة مظنة النقاوة والخلوص، وأنهم يعيشون في البوادي لا الحضر، والبوادي مظنة العزلة ويندر أن يجتازها الأغراب، أما القبائل غير الموثقة فتقع في أطراف الجزيرة فيكثر اتصالها بغير العرب، أو تقع في الحضر فيكثر تعرضها لوفادات الأجانب ومخالطة الأعاجم، وبصفة عامة تُكوِّن هذه القبائل ما يشبه السور الخارجي للقبائل الموثقة. يقول ابن جني في «باب في ترك الأخذ عن أهل المدر كما أُخذ عن أهل الوبر»: (١) «علة امتناع ذلك ما عرض للغات الحاضرة وأهل المدر من الاختلاط والفساد والخطل، ولو عُلم أن أهل مدينةٍ


(١) المدر: الطين اللزج المتماسك، وأهل المدر سكان البيوت المبنية (أي أهل الحضر)، خلاف البدو أهل الخيام.

<<  <   >  >>