للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المحدثين والأقدمين معًا. في مجلة مجمع اللغة العربية ج ٨ ص ٢٠٩ يقول د. أحمد أمين إن بعض جامعي اللغة لم يكن يتحرى في جمعه، بل يدوِّن كل ما يسمع سواء سمع من ثقة أو غير ثقة. وفي كتاب «اللغة بين المعيارية والوصفية» يقول د. تمام حسان: «وليس ببعيد أن يكون الأعراب الضاربون في الصحارى التي طَرَقها الرواة قد فطنوا إلى ضالة هؤلاء الناس، وإلى أنهم يجرون وراء غريب اللغة أو غريب التراكيب، ويحسنون إلى من يُنِيلهم هذا المطلب، وليس ببعيد كذلك أن بعض الأعراب قد اتخذ من التجارة بالغريب وسيلةً للرزق ليس من صالحه أن تفنى، فإذا ما نضب معينُ ما عنده من اللغة عَمَدَ إلى الاختراع وبالغ في ذلك، ولا سيما حين فطن إلى سرور الرواة بما يقول واحتفالهم به … على أن الرواة واللغويين أنفسهم لم يكونوا في بعض الأحيان فوق مستوى الشبهات، فقد كان الرواة يأخذون من كلام الأعراب ما وافق هدفهم، ويتركون منه ما لا يعجب به الناس في الحاضرة، ولا ينفع اللغويين، أو لا يحفل به اللغويون، لبعده عما قعَّدوه من قواعد.» (١) ثم يشير إلى ظاهرة اختلاق الروايات والنصوص التي تسد في التقعيد فراغًا صودف وحاجةً عَرَضَت. جاء في العقد الفريد عن الأصمعي: «ورأيت أعرابيًّا ومعه بنيٌّ له صغير ممسك بفم قربة وقد خاف أن تغلبه القربة، فصاح يا أبت! أدرك فاها، غلبني فوها، لا طاقة لي بفيها.» يعلق د.

تمام على هذا الخبر قائلًا: «ولستُ أشك في أن هذا الخبر مختلق، بل إن هذا النص الذي نطق به الغلام كما يرويه الأصمعي أو من ألصق به هذا الخبر ليبدو كأنه منتزعٌ من صفحةٍ من صفحات كتب القواعد تتكلم عن إعراب الأسماء الخمسة، فالمسألة إذن ليست مسألة موقف اجتماعي يسجَّل كما هو وتأتي النصوص فيه جزءًا من هذا الموقف، لا بل إن النص والخبر هنا يخلقان الموقف المصطنع الذي يدور الكلام فيه حول إعراب كلمة بعينها، ولا يبدو لنا نصًّا لغويًّا ذا عنصرٍ اجتماعي واضح.» (٢)

نحن هنا، كما في كثير من المواضع في تراثنا، أمام قلبٍ لمنطق الأمور و «وضع للعربة أمام الحصان» Hysteron proteron أمام قاعدةٍ تُلتمس لها الشواهد، لا شواهد تُستخلص منها القاعدة، أمام نص «احتيالي» Ad hoe، «قُدَّ» على مقاس المشكلة التي «قُيض» لحلها؛ ذاك موقفٌ حرج يبتلي أخلص العلماء، ويزين له أن يرشو ضميره ويختان نفسه.


(١) د. تمام حسان: اللغة بين المعيارية والوصفية، عالم الكتب، القاهرة، ط ٤، ٢٠٠٠، ص ٨٤ - ٨٥.
(٢) المرجع السابق، ص ٨٦.

<<  <   >  >>