للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إليها حين يواجه المعنى، فإذا أراد أن يبرزها أو أن يؤكدها مثَّلها بلفظٍ مثل قوله: «إنه هو الحق»، ومعنى هذا أن الإسناد في اللغة العربية يكفي فيه إنشاء علاقة ذهنية بين «موضوع» و «محمول» أو مسند إليه ومسند، دون حاجة إلى التصريح بهذه العلاقة نطقًا أو كتابةً، في حين أن هذا الإسناد الذهني لا يكفي في اللغات الهندوأوروبية إلا بوجود لفظٍ صريحٍ مسموع أو مقروء، يشير إلى هذه العلاقة في كل مرة، وهو فعل الكينونة في اصطلاحهم، ويسمونه في تلك اللغات «رابطة» Copula من شأنها أن تربط بين الموضوع والمحمول إثباتًا أو نفيًا، وقد التفت بعض المناطقة الغربيين في العصور الحديثة إلى تكلُّف هذه «الرابطة» اللفظية في أكثر اللغات الهندوأوروبية: فقد بيَّن جون ستيوارت مل في كتابه «نسق في المنطق» أننا لا نحتاج في الحقيقة إلى شيء سوى «الموضوع» و «المحمول»، وأن «الرابطة» إنما هي مجرد علامة على ارتباطهما من حيث هما موضوع ومحمول. (١)

يرى د. عثمان أمين أن غياب فعل الكينونة ميزةٌ فلسفية امتازت بها لغتنا على غيرها من اللغات: فالعربية ترى من نافلة القول أن نضطر إلى إثبات فعل الكينونة في كل قضية كيما نصدِّق بها، بل أكثر من هذا، أن العربية تفترض «أولانيًّا» (٢) وابتداءً أن مجرد إخطار المعنى في الذهن، ومجرد «ثبوت الإنية» - كما يقول الفارابي وابن سينا - أو وجود الذات العارفة التي تقرر المعنى، كافٍ وحده لإثبات هذا المعنى، وبعبارة أخرى إن العربية تفترض دائمًا أن شهادة الفكر أصدق من شهادة الحس أو، بتعبير فلسفي شائع لدى فلاسفة العرب ومتكلميهم، أن العربية بطبيعة بنيتها وصياغتها تقرر أن «الماهية متقدمة على الوجود» (تقدُّم رتبةٍ وحيثيةٍ لا تقدم زمانٍ أو وضعٍ في المكان).

ويعلم كل دراس للفلسفة الديكارتية أن فعل الكينونة هذا قد أحدث خلطًا في فهم الكثيرين للكوجيتو الديكارتي، وأدى إلى ارتباكٍ ذهني كبير في الغرب في مستهل الفلسفة الحديثة. مثل هذا الخلط لا يمكن أن يقع في اللغة العربية لأنها استغنت أولانيًّا عن فعل الكينونة، ولم تسلِّم بأن له وظيفةً منطقيةً، فضلًا عن عدم التسليم بأنه «فعل» من الأفعال اللغوية.


(١) فلسفة اللغة العربية، ص ٢٤ - ٢٧.
(٢) A priori.

<<  <   >  >>