للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تشريح اللغة لا ينبغي أن يعبر عن موقفه من موضوعه بالنص على ما يجوز وما لا يجوز، و «هَمُّ اللغوي لهذا السبب هو أن يصف الحقائق لا أن يفرض القواعد»، وإن الدراسة الوصفية لتختار مرحلة بعينها، من لغة بعينها، لتصفها وصفًا استقرائيًّا، وتتخذ النواحي المشتركة بين المفردات الداخلة في هذا الاستقراء وتسميها قواعد، فالقاعدة في الدراسة الوصفية ليست معيارًا، وإنما هي جهة اشتراك بين حالات الاستعمال الفعلية.» (١)

وإذا كان النحاة الأوائل قد اتخذوا منهجًا استقرائيًّا وصفيًّا يبدأ من جمع النصوص اللغوية وملاحظتها، ويمضي إلى استخلاص القواعد العامة التي تنتظمها، فإن النحاة المتأخرين قد اتخذوا «طريقًا عكسيًّا» Via negative: فبدءوا من القواعد العامة وفرضوها على النصوص، والحق أنه لم تكن القواعد في الحالتين تعكس لغة العرب كما هي قائمة بالفعل، وإنما تعكس أفكار النحاة وعقولهم التي شكلها المنطق الأرسطي وأثَّر فيها بالغ الأثر، يقول د. إبراهيم بيومي مدكور في بحثه الشهير «منطق أرسطو والنحو العربي» (المجمع ١٤٨): «ولا شك في أن المنطق الأرسطي قد صادف في القرون الوسطى المسيحية والإسلامية نجاحًا لم يصادفه أي جزء آخر من فلسفة المعلم الأول: فعُرِف أرسطو المنطقي قبل أن يعرَف أرسطو الميتافيزيقي، وتُرجم الأرجانون قبل أن يترجم كتاب الطبيعة أو كتاب الحيوان. وللأرجانون (٢) في العالم العربي منزلةٌ خاصة، فكانت أجزاؤه الأولى أول ما ترجم من الكتب الفلسفية إلى اللغة العربية، ثم ألحقت الأجزاء الأخرى فتُرجمت وشُرحت واختصرت، وتوالى البحث في المنطق لدى المدارس الإسلامية المختلفة عند الفلاسفة والمتكلمين، بل وعند الفقهاء … ولم يقف الأمر فيما نعتقد عند الفقه والكلام والفلسفة، بل امتد إلى دراسات أخرى من بينها النحو، وقد أثر فيه المنطق الأرسطي من جانبين: أحدهما موضوعي، والآخر منهجي، فتأثر النحو العربي عن قرب أو بعد بما ورد على لسان أرسطو في كتبه المنطقية من قواعد نحوية، وأريد بالقياس النحوي أن يحدد ويوضع على نحو ما حدده القياس المنطقي.»

وقد أشار اللغوي الإنجليزي روبرت هنري روبنز في كتابه «موجز تاريخ علم اللغة» إلى تأثر النحو العربي بالمنطق الأرسطي، إذ يقول: «نشأ تنافس مهم بين مدارس فقه


(١) د. تمام حسان: اللغة بين المعيارية والوصفية، ص ٢٤.
(٢) كتاب أرسطو في المنطق، و «الأورجانون» باليونانية تعني «الآلة» أو «الأداة»، أي آلة الفكر أو أداته.

<<  <   >  >>