للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

اللغة المختلفة في العالم العربي، ونلمس التأثير الأرسطي - خاصة في مدرسة البصرة - بوصفه جزءًا من التأثير الأوسع للفلسفة اليونانية والعلم اليوناني على المعرفة العربية، وقد شددت مدرسة البصرة على الاطراد الصارم وعلى الطبيعة النظامية للغة بوصفها وسيلة الحديث المنطقي عن عالم الظواهر، وهنا يمكن القول إن أفكار أرسطو عن القياس قد تركت أثرها، وقد أوْلت مجموعةٌ من العلماء اللغويين في الكوفة أهميةً أكبر للاختلاف في اللغة كما هو موجود بالفعل (السماع) بما في ذلك الاختلافات اللهجية وما هو واقع في النصوص كما أقرت، وهذه المدرسة تعتنق إلى حد ما وجهات نظر «شذوذية» Anomalist … على أنه من المؤكد أن اللغويين العرب قد طوروا وجهات نظر خاصة بهم في دراستهم النظامية للغتهم، ولم يفرضوا عليها بأي حال النماذج اليونانية مثلما فعل النحاة اللاتين.» (١)

ومن الحق أن «مذهب» المرء في منشأ اللغة يملي عليه «منهجه» في دراستها: فأنت إذا قنعت بأن اللغة عرفٌ اجتماعي اتفاقي فسوف تقنع في دراستها بالوصف المحايد والاستقراء السمح، أما إذا امتلأت بأنها «توقيف» إلهي (٢) أو اصطلاح حكماء أو سليقةٌ عربية سحرية فسوف يتملكك وسواس البحث عن الحكمة أو «العلة»، وسوف تصطنع في دراستها القياس والتعليل والتأويل.

ليست العربية توقيفًا إلهيًّا، لقد اختُرعت اللغة كما يقول هيردر «بوسائل الإنسان الخاصة، ولم تُبتكر بصورةٍ آلية بطريق التعليمات الإلهية، لم يكن الله هو الذي اخترع اللغة للإنسان، ولكن الإنسان نفسه هو الذي اضطر إلى اختراعها بطريق ممارسته قدراته الخاصة.» وليست اللغة اصطلاحًا بين حكماء، من البشر أو غير البشر، كما بينا ذلك في موضعه، وليست اللغة سليقةً عربية سحرية تتلبس بالأعراب وتسري منهم مسرى الدم وتجعلهم المفوضين في اللغة وتكسبهم معرفةً بمواقع الكلام وعللًا تقوم في العقول، وإنما اللغة اكتسابٌ وتعلمٌ اجتماعي بالممارسة والاعتياد.


(١) ر. هـ. روبنز: موجز تاريخ علم اللغة، ترجمة د. أحمد عوض، عالم المعرفة، الكويت، عدد ٢٢٧، نوفمبر ١٩٩٧، ص ١٧١ - ١٧٢.
(٢) يقول السيوطي في «الاقتراح»: «إن العرب لم تبتدع اللغة العربية، وإنما هي من صنع الله سبحانه، وعلى النحاة أن تبحث عن حكمة الله فيما صنعه.» (السيوطي: الاقتراح في علم أصول النحو، تحقيق أحمد الحمصي ومحمد قاسم، جروس برس، ١٩٨٨، ص ٨١).

<<  <   >  >>