للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فإذا ما تخلى الباحث عن المنهج الوصفي الاستقرائي ولجأ إلى التفكير القياسي المعياري يكون قد نأى بنفس القدر عن مجال عمله وجعل دراسته مؤسسة على المنطق. وفي مستهل كتابه «علم اللغة العام» يقول دي سوسير: «لقد اهتم الدارسون في بادئ الأمر بفرع من فروع المعرفة سمي بالنحو. إن هذه الدراسة التي بدأها الإغريق وأخذها عنهم الفرنسيون اعتمدت على علم المنطق، وهي تفتقر إلى النظرة العلمية ولا ترتبط باللغة نفسها، وليس لها من هدف سوى وضع القواعد التي تميز الصيغ الصحيحة وغير الصحيحة، فهي دراسة معيارية تبتعد كثيرًا عن الملاحظة الخالصة للوقائع، ومجالها محدود ضيق.» (١)

لقد كانت دراسة اللغة تدور في مبدأ الأمر على تلقي النصوص من أفواه الرواة، ومشافهة الأعراب وفصحاء الحاضرة، فكان ثمة مجال للاستقراء واستخلاص القاعدة من تقصي سلوك المفردات والأمثلة، ومن ثم رأينا الدراسات العربية الأولى تتسم بالوصف، وتنأى إلى حد كبير عن المعيار، ثم وضع حدٌّ فاصل انتهى عنده عصر الاحتجاج، وجاء وقتٌ كان الرواة عنده قد أفرغوا ما في جعبتهم، وبذا جفت روافد الرواية، وانحسر المد الذي كان يفيض على الحواضر، فوجد النحاة أنفسهم وجهًا لوجه مع تجربةٍ جديدة، هي أن يتكلموا في النحو دون اعتماد على روايات جديدة، وبذا أصبحت الروايات القديمة مقاييس متحجرة كان من الواجب في رأي النحاة على طلاب الفصاحة أن يحتذوها، وبدأ الكلام عند هذا الحد فيما يجوز وفيما لا يجوز من التراكيب، بل بدأ الكلام فيما يجب منها أيضًا. (٢)

وثمة ما يشير من الوجهة التاريخية إلى أن المنطق الأرسطي نشأ متأثرًا بالنحو الإغريقي، وأن النحو العربي نشأ متأثرًا بالفكر الأرسطي، فقد استعان أرسطو في وضعه للوحة «المقولات» Categories بالتقسيمات اللغوية، ثم جاء النحو العربي فورث عن أرسطو خلطه بين النحو والمنطق، وعمل على تطبيق المقولات الأرسطية العشر على اللغة، كما أخذ عن أرسطو أقيسته المنطقية وعلله الأربع، وسعى إلى تطبيقها في المسائل النحوية، وكانت النتيجة كارثية كشأن أي محاولةٍ لفرض قوالب شيءٍ على شيءٍ آخر من غير جنسه.


(١) دي سوسير: علم اللغة العام، ص ١٩.
(٢) اللغة بين المعيارية والوصفية، ص ٤٤.

<<  <   >  >>