للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لم يكن العرب نسيج وحدهم حين نسبوا لغتهم إلى قوةٍ عليا خارقةٍ وأضفوا عليها صفة الكمال وقالوا بأسبقيتها على بقية اللغات وبأفضليتها على سواها وباستحالة البيان بأي لغة أخرى، تلك هي «مركزية العرق» أو «المركزية الإثنية» Ethnocentrism التي تَسِمُ كل المجتمعات البشرية، وبخاصةٍ في مراحل تطورها الأولى، وتحمل كل شعبٍ على أن يغلو ويتشدد في أية عناصر يجدها خاصةً به وحده ومميزةً له عن الآخرين: جماعتنا هي الصواب وغيرها الخطأ … هي الحق وغيرها الباطل.

الحق أن جميع الثقافات القديمة ذهبت إلى أن لغتها كانت هي اللغة الأولى، وكانت من صنع الآلهة، وكانت أفضل اللغات. يقول جالينوس: «لغة اليونانيين هي أفضل اللغات؛ لأن سائر اللغات تشبه إما نباح الكلاب وإما نقيق الضفادع»، وقد ذهب المصريون القدماء إلى أن اللغة الأولى هي اللغة المصرية، وأن أسلافهم الآلهة قد أنعموا بها على أهل مصر القديمة، (١) وكما قال أول فرعون مصري بإحضار اللغة للإنسان، كذلك قام الإمبراطور الصيني تين تسو، ابن السماء، بفعل الشيء نفسه. أما في اليابان فقد كانت الإلهة إماتراسو، إلهة الشمس، هي خالقة الإنسان ولغته، بينما قام إنليل بهذا الدور في الشرق الأوسط، (٢) وقد ادعى اليهود أن لغة الرب ولغة الملائكة هي العبرية، وأن أول شيءٍ كتب على صفحة السماء السابعة بيد الله هو حروف هذه اللغة، كما ادعى الفرس أن لغتهم ستكون لغة التخاطب في الجنة، وقبلهم قال السريان إن لغة أهل الجنة ولغة الحساب في الآخرة هي السريانية. (٣)

ليست العربية أم اللغات، ولا هي لغة مقدسة لا تتغير ولا تتبدل، ومثل هذه الدعاوى المتعصبة لا تخدم اللغة في شيء، بل تؤدي إلى جمودها وموتها، ومن جهة أخرى ليست العربية عاجزة، والحق أنه ليست هناك لغةٌ عاجزة، وليس هناك معنى لقولك: «اللغة س عاجزة»، إنما العجز صفةٌ لأصحاب اللغة، فاللغة مرآة أصحابها كيفما كانوا، وأنت حين تقول: «اللغة س عاجزة» تقع في «خطأٍ مقولي» Category Mistake خفيٍّ وتصف الأشياء بما لا توصف به. والصواب أن تقول «الجماعة ص عاجزةٌ لغويًّا في اللحظة ن»،


(١) West، Fred: the Way of Language: an Introduction، Harcourt، ١٩٧٥، p. ٤.
(٢) Ibid.، p. ٥.
(٣) حسن ظاظا: اللسان والإنسان، دار الفكر العربي، القاهرة، ١٩٧١، ص ٦٨.

<<  <   >  >>