للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الفصحى القديمة وتحل محلها … ثم يحذر في الوقت نفسه من تبنِّي العامية كلغة كتابة لأن مآلها التطوري معلومٌ ووخيم! ومن البيِّن أنه بذلك يسد الطرق أمام اللغة، ويتركنا في موقفٍ أشبه بالتوقف اللغوي: فلا نحن نملك إحياء الفصحى وتعميمها، ولا نحن ننصح بتبني العامية وإنضاجها والكتابة بها!

وهناك موقفٌ آخر يبدو متناقضًا للوهلة الأولى ولكنه في الحقيقة متسقٌ (مع ذاته على أقل تقدير)، وهو موقف د. رمضان عبد التواب إذ أسهب في كتابيه «التطور اللغوي» و «بحوث في فقه اللغة» في تبيان نواميس التطور وحتميته: «تلك سنة الحياة، وتاريخ اللغات يشهد بهذا، ولا نعرف لغةً على ظهر الأرض جمدت على شكلٍ واحد مئات السنين»، ثم يعود ويستثني العربية من هذه السنن لأن لها «ظرفًا خاصًّا لم يتوفر لأية لغة من لغات العالم، وهذا الظرف يجعلنا نرفض ما ينادي به بعض الغافلين، عن حسن نية أو سوء نية أحيانًا، من ترك الحبل على الغارب للعربية الفصحى، لكي تتفاعل مع العاميات، تأخذ منها وتعطي، كما يحدث في اللغات كلها … لأنها ارتبطت بالقرآن منذ أربعة عشر قرنًا، ودوِّن بها التراث العربي الضخم … » (١) ويدعم د. عبد التواب رأيه بقوله: «هذا هو السر الذي يجعلنا لا نقيس العربية الفصحى بما يحدث في اللغات الحية المعاصرة، فإن أقصى عمر هذه اللغات، في شكلها الحاضر، لا يتعدى قرنين من الزمان، فهي دائمة التطور والتغير، وعرضة للتفاعل مع اللغات المجاورة، تأخذ منها وتعطي، ولا تجد حرجًا؛ لأنها لم ترتبط في فترة من فترات حياتها بكتابٍ مقدَّس، كما هو الحال في العربية.» (٢) ويزيد د. عبد التواب موقفه قوةً واتساقًا (ذاتيًّا) بقوله: «إن العربية تحمل في طبيعة تكوينها عنصر التجدد والحياة، إن أفاد أهلها من منهجها العظيم في القياس، والاشتقاق، والنحت، والتعريب.» (٣)

غير أن الاحتضار المشهود للفصحى اليوم ربما ينال من «الاتساق الخارجي» لنظرية د. عبد التواب، ويتركها بحاجة إلى اكتمال، ونحن نخشى أن تكون الغيرة المفرطة على الفصحى عاطفةً انتحارية أفضت إلى هذا الاحتضار المشهود. ويبدو أننا قد تجاوزنا مرحلة الكراهة والبغض للفصحى إلى مرحلة السخرية والضحك، وهل تعد حيةً لغةٌ


(١) بحوث في فقه اللغة، ص ١٤٥.
(٢) المصدر السابق، ص ١٤٦.
(٣) المصدر السابق، ٤٠٠.

<<  <   >  >>