للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولن تزال كذلك حتى تبعد بعدًا كبيرًا عن لغة الكتابة؛ فنصبح وإذا بنا نكتب بلغةٍ ونتخاطب بلغةٍ أخرى، فإذا صبرنا على هذا الازدواج ذهب كل ما عملناه في هذا السبيل أدراج الرياح، وإذا أخذنا على أنفسنا العمل على القضاء عليه كلما ظهر باستخدام الوسيلة نفسها التي استخدمناها في المرة الأولى، كان معنى ذلك أننا نضطر على رأس كل خمسين سنة أو كل قرن على أكثر تقدير إلى تغيير لغة الكتابة بلغةٍ أخرى: وهذا هو أقصى ما يمكن أن تصل إليه الفوضى في شعب إنساني.» (١) يضاف إلى هذا كله أن العامية تختلف داخل الشعب الواحد إلى عاميات بعدد المناطق والطوائف، فالقضاء على الازدواج لا يكون إلا بأن تصطنع كل منطقة لغة كتابة تتفق مع لغة حديثها، «وبذلك يصبح في البلاد العربية آلافٌ من لغات الكتابة بمقدار ما فيها من مناطق ومدن وقرى، ولا أظن عاقلًا ينصح بمثل هذه الفوضى.»

ويرى د. وافي أن حل الازدواجية بالصعود بلهجة الحديث إلى العربية الفصحى هي أمنيةٌ غالية ولكنها غير ممكنة التحقيق؛ وذلك لسببين: الأول أن لغة المحادثة لا تُفرَض فرضًا ولا يمكن النكوص بها إلى الوراء لأن من سنتها التطور والتبدل وفقًا لنواميس قاهرة لا تخضع لإرادة الأفراد، والسبب الثاني أننا حتى لو افترضنا جدلًا أننا نجحنا في تعميم الفصحى وجعلنا كل العرب يتحدثون بالفصحى، فإن هذه اللغة المفترضة لا تلبث بعد تداولها على الألسنة أن تخضع لجميع القوانين التي تخضع لها اللغات الطبيعية، وسرعان ما تختلف هذه اللغة من جماعة إلى أخرى وفقًا للظروف الجغرافية والاجتماعية والجينية الخاصة بكل منها، وسرعان ما تختلف من جيل إلى جيل، وسرعان ما تنشعب هذه الفصحى الخيالية إلى لهجات وتتسع الهوة بين هذه اللهجات «ولا بد أن تسير في المراحل نفسها التي سارت فيها العربية الفصحى من القرن السابع الميلادي إلى الوقت الحاضر، وتنتهي إلى النتيجة نفسها التي انتهت إليها. وهكذا لن يمضي زمن قصير أو طويل حتى تنبعث مرةً أخرى المشكلة نفسها التي حاولنا القضاء عليها، وحتى نرى الناس يتحدثون بلهجات تبعد بعدًا كبيرًا عن لغة الكتابة.» (٢)

تعاني تنظيرات د. وافي من عدم اتساقٍ واضح؛ فقد أسهب في تبيان قوانين التطور وحتميته، وحدد اتجاهه: من لغة كتابة تنشعب عنها عاميات ما تلبث أن تنضج وتنحي


(١) المصدر نفسه، ص ١٥٨.
(٢) المصدر نفسه، ص ١٦٠.

<<  <   >  >>