للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

اللاتينية. فاختلاف لغة الكتابة عن لغة التخاطب ليس إذن أمرًا شاذًّا حتى نتلمس علاجًا له، بل هو السُّنة الطبيعية في اللغات، ولن تجد لسنة الله تبديلًا.» ولعل من الواضح الآن أن حديث الدكتور وافي، في أحسن تقدير، لم يكن متسقًا مع ذاته، فهو من جهة يقول إن الانشعاب وانفصال العاميات إلى لغات كتابة هو مآلٌ محتومٌ تفرضه سُنة التطور، ومن جهة أخرى يحذِّر من كوارث الكتابة بالعامية، وينعى عليها اضطرابها وفقرها: «فاللغة العامية التي يرى هؤلاء استخدامها في الشئون التي تستخدم فيها الآن العربية الفصحى لغةٌ فقيرة كل الفقر في مفرداتها، ولا يشتمل متنها على أكثر من الكلمات الضرورية للحديث العادي، وهي إلى ذلك مضطربة كل الاضطراب في قواعدها وأساليبها ومعاني ألفاظها وتحديد وظائف الكلمات في جملها وربط الألفاظ والجمل بعضها ببعض، وأداةٌ هذا شأنها لا تقوى مطلقًا على التعبير عن المعاني الدقيقة، ولا عن حقائق العلوم والآداب والإنتاج الفكري المنظم.» (١) وإننا لنضطر اضطرارًا في أحاديثنا العادية إلى اتخاذ الفصحى كلما احتجنا إلى التعبير عن حقائق منظمة وأفكار مسلسلة لا تسعفنا فيها مفردات العامية ولا قواعدها، «فإذا لم نجد أمامنا لا قدر الله إلا اللغة العامية نستخدمها في جميع شئون تفكيرنا وتعبيرنا لتقطعت بنا أسباب الثقافة ونكصنا إلى الوراء قرونًا عديدة، وقُضي على نشاطنا الفكري قضاءً مبرمًا؛ لأن الفكر إذا لم تسعفه أداةٌ مواتية في التعبير خمدت جذوته، وضعف شأنه، وضاق نطاقه، واقتصر نشاطه على توافه البحوث وسفساف التأملات، فاللغة هي القالب الذي يُصَبُّ فيه التفكير: فكلما ضاق هذا القالب واضطربت أوضاعه ضاق نطاق الفكر واختل إنتاجه.» (٢)

ويمضي د. وافي في رصد الكوارث التي يمكن أن تُلحِقها الكتابة بالعامية، فيذكر منها انعزال الأجيال القادمة عن تراث أمتها وعجزها عن فهمه والانتفاع به، والضرر القومي البليغ المتمثل في تشرذم الأمة إلى جماعات لكل منها لغته الخاصة التي لا تفهمها الجماعات الأخرى، كما أن العامية نفسها في كل بلد غير ثابتة على حال واحدة بل عرضة للتطور السريع في أصواتها ومفرداتها ودلالاتها وقواعدها، وسرعان ما نجد أنفسنا أمام المشكلة نفسها التي التجأنا في حلها إلى اتخاذ العامية لغة كتابة، «وذلك أن لغة الحديث سوف تتطور وسوف ينالها كثيرٌ من التغير في أصواتها ودلالاتها وقواعدها وأساليبها،


(١) المرجع نفسه، ص ١٥٦ - ١٥٧.
(٢) المصدر نفسه، ص ١٥٧.

<<  <   >  >>