للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وبعض القائلين بالتوقيف يرون أن اللغات كلها تم صنعها في بدء الخليقة (المزهر ١: ١١)، وبعضهم يرى أن التوقيف لم يقع في الابتداء إلا على لغةٍ واحدة، وأن اللغات الأخرى ثم التوقيف عليها بعد الطوفان في أولاد نوح حين تفرقوا في أقطار الأرض (المزهر ١: ٢٧)، ويرى فريقٌ ثالث أنه يجوز أن تكون اللغات التي تلت اللغة التوقيفية الأولى جاءت اصطلاحًا أو توقيفًا (المزهر ١: ٢٧)، ويرى آخرون أن اللغة الأولى فقط هي التوقيفية (وهي العربية - اللغة التي نزل بها آدم من الجنة)، بينما نشأت اللغات الأخرى تحريفًا (المزهر ١: ٣٠).

ومن التوقيفيين مَنْ ذهب إلى أن اللغة العربية ظهرت أيضًا في مرحلة متأخرة عندما حشر الله الخلائق إلى بابل، جاء في «المزهر»: « … لما حشر الله الخلائق إلى بابل بعث إليهم ريحًا، فاجتمعوا ينظرون لماذا حشروا له، فنادى منادٍ: من جعل المغرب عن يمينه والمشرق عن يساره واقتصد البيت الحرام بوجهه فله كلام أهل السماء، فقام يعرب بن قحطان فقيل له: يا يعرب بن قحطان بن هود، أنت هو؟ فكان أول من تكلم بالعربية المبينة» (المزهر ١: ٣٢). ومنهم من ذهب إلى أن العربية ظهرت أول مرة بعد قدوم سيدنا إسماعيل عليه السلام إلى مكة واستقراره بها، وأن أول من تكلم بالعربية ونسي لسان أبيه هو إسماعيل عليه السلام (المزهر ١: ٣٢ - ٣٣).

ويبدو أيضًا أن النسق المذهبي لعالم اللغة كان يملي عليه الرأي في أصل اللغة، وأن تفكيره في هذا الشأن لم يكن علميًّا خالصًا، أو فلسفيًّا محضًا، فثَمَّ مذهبٌ كلامي كلي عليه أن يخضع له ويضمن اتساقه. يقول د. إبراهيم أنيس: «إن الخلاف بين علماء العرب ظهر واضحًا في منتصف القرن الرابع الهجري وما بعده، فرأيناهم فريقين: أولًا: أهل التقاليد من المحافظين الذين اعتمدوا على النصوص من السنيين وأضرابهم، وهؤلاء كانوا ينادون بأن اللغة توقيفية وأن لا يد للإنسان في نشأة ألفاظها أو كلماتها، وزعيم هؤلاء ابن فارس في كتابه «الصاحبي»، والفريق الثاني من علماء اللغة الذين نادوا بأن اللغة اصطلاحية، وكان معظمهم من المعتزلة الذين استمدوا أدلتهم من المنطق العقلي، وفسروا ما ورد من نصوص بحيث تلائم اتجاههم وتنسجم مع منطقهم.» (١)


(١) د. إبراهيم أنيس: دلالة الألفاظ، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٩١، ص ١٧ - ١٨.

<<  <   >  >>