ويرد القائلون بالاصطلاح بأنَّ المقصود بقوله تعالى:{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} أَقدَرَه عليها ومَكَّنَه من الكلام والتسمية، ويردون على أهل التوقيف بطريقتهم:«لو كانت اللغات توقيفية فذلك إما بأن يخلق الله تعالى علمًا ضروريًّا في العاقل أنه وضع الألفاظ لكذا، أو في غير العاقل، أو بألَّا يخلق علمًا ضروريًّا أصلًا، والأول باطل، وإلا لكان العقل عالمًا بالله بالضرورة؛ لأنه إذا كان عالمًا بالضرورة بكون الله وضع كذا لكذا لكان علمه بالله ضروريًّا ولو كان كذلك لبطل التكليف. والثاني باطل؛ لأن غير العاقل لا يمكنه إنهاء تمام هذه الألفاظ. والثالث باطل؛ لأن العلم بها إذا لم يكن ضروريًّا احتيج إلى توقيفٍ آخر، ولزم التسلسل.»(المزهر ١: ١٨).
جاء في كتاب الحروف للفارابي:«فهكذا تحدث أولًا حروف تلك الأمة وألفاظها الكائنة عن تلك الحروف، ويكون ذلك أولًا ممن اتفق منهم، فيتفق أن يستعمل الواحد منهم تصويتًا أو لفظة في الدلالة على شيء ما عندما يخاطب غيره فيحفظ السامع ذلك، فيستعمل السامع ذلك بعينه عندما يخاطب المنشئ الأول لتلك اللفظة، ويكون السامع الأول قد احتذى بذلك فيقع به، فيكونان قد اصطلحا وتواطآ على تلك اللفظة، فيخاطبان بها غيرهما إلى أن تشيع عند جماعة، ثم كلما حدث في ضمير إنسان منهم شيءٌ احتاج أن يفهمه غيره ممن يجاوره، اخترع تصويتًا فدل صاحبه عليه وسمعه منه فيحفظ كل واحد منهما ذلك وجعلاه تصويتًا دالًّا على ذلك الشيء، ولا يزال يحدث التصويتات واحدًا بعد آخر ممن اتفق من أهل ذلك البلد، إلى أن يحدث من يدبر أمرهم ويضع بالإحداث ما يحتاجون إليه من التصويتات للأمور الباقية التي لم يتفق لها عندهم تصويتات دالة عليها، فيكون هو واضع لسان تلك الأمة، فلا يزال منذ أول ذلك يدبر أمرهم إلى أن توضع الألفاظ لكل ما يحتاجون إليه في ضرورية أمرهم.»(١)
وجدير بالملاحظة أن فكرتي «التوقيف» و «الاصطلاح» لم تكونا واضحتين في أذهان أصحابهما، كما يتصور القارئ المعاصر، ولا متمايزتين إحداهما عن الأخرى تمام التمايز!
فبعض القائلين بالاصطلاح لا يستبعدون أن تكون اللغة من وضع مخلوقات ذكية سابقة على الإنسان. يقول الغزالي في المنخول إن «قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} ظاهر في كونه توقيفًا وليس بقاطع، ويحتمل كونها مصطلحًا عليها من خلق الله تعالى قبل آدم»(المزهر ١: ٢٣).
(١) الفارابي: كتاب الحروف، تحقيق محسن مهدي، دار المشرق، بيروت، ١٩٧٠، ص ١٣٧ - ١٣٨.