للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وإن بَعُدَ مداه عنا، من كان ألطف منا أذهانًا، وأسرع خواطر وأجرأ جنانًا؛ فأقف بين تَيْن الخلتين حسيرًا، وأكاثرهما فأنكفئ مكثورًا، وإن خطر خاطرٌ فيما بعد، يعلق الكف بإحدى الجهتين، ويكفُّها عن صاحبتها، قلنا به، وبالله التوفيق.» (١)

وفي موضعٍ آخر من الخصائص يقول ابن جني: «هذا كله وما أكني عنه من مثله - تحاميًا للإطالة به - إن كانت هذه اللغة شيئًا خوطبوا به وأخذوا باستعماله، (٢) وإن كانت شيئًا اصطلحوا عليه، وترافدوا بخواطرهم ومواد حكمهم على عمله وترتيبه فهو مفخرٌ لهم، ومعلمٌ من معالم السداد دل على فضيلتهم.» (٣)

وفي موضعٍ ثالث من الخصائص يقول بصريح العبارة: «قد تقدم في أول الكتاب القول على اللغة: أتواضع هي أم إلهام؟ وحكينا وجوَّزنا فيها الأمرين جميعًا، وكيف تصرفت الحال، وعلى أي الأمرين كان ابتداؤها؛ فإنها لا بد أن يكون وقع في أول الأمر بعضها، ثم احتيج فيما بعد إلى الزيادة عليه؛ لحضور الداعي إليه، فزيد فيها شيئًا فشيئًا، إلا أنه على قياس ما كان سبق منها في حروفه وتأليفه … » (٤)

يرى د. لطفي عبد البديع «أن التوقيف يمكن حمله على الإلهام من الله تعالى للبشر بالأسماء في مطلق معناها دون أن يكون في ذلك تعارض ما مع القول بالاصطلاح على معنى أن يتواطأ اثنان فأكثر من أبناء لغة بعينها على تسمية شيء بالاسم الذي يرتضونه ويتواضعون عليه هم ومن يليهم، ويكون التوقيف والاصطلاح أمرين «متكاملين» في الإنسان لا يتم أحدهما إلا بالآخر فهما جانبان للغة التي تدرج على الأرض ولكنها تمد بسببٍ إلى السماء؛ فالتوقيف كالأصل الميتافيزيقي للغة، والاصطلاح كالأصل الاجتماعي لها، وكلاهما له مكانه السائغ في العمل اللغوي، أما ما أفاض فيه القائلون بهذا وذاك من حجج وأدلة فمبناه على قضايا كلامية في جملتها ينقض بعضها بعضًا … » (٥)


(١) الخصائص، ج ١، ص ٤١ - ٤٨.
(٢) أي كانت توقيفًا.
(٣) الخصائص، ج ١، ص ٢٤٥ - ٢٤٦.
(٤) الخصائص، ج ٢، ص ٣٠.
(٥) د. لطفي عبد البديع: عبقرية العربية في رؤية الإنسان والحيوان والسماء والكواكب، كتاب النادي الأدبي الثقافي، جدة، ١٩٨٦، ص ١١ - ١٢.

<<  <   >  >>