للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الكتابة عن لغة التخاطب ليس إذن أمرًا شاذًّا حتى نلتمس علاجًا له، بل هو السُّنة الطبيعية في اللغات، ولن تجد لسُنة الله تبديلًا.» (١)

كان هذا الرأي حول الازدواجية اللغوية، الذي تلخصه فقرتا الأستاذ العقاد والدكتور وافي، سائدًا بين الكثير من النخبة المثقفة في النصف الأول من القرن العشرين، إذ كانت «النهضة» في أوجها و «التنوير» يمضي في عنفوانه مطمئنًا إلى نتائجه واثقًا من مآله، (٢) وأقرب ما ننعت به هذا الرأي المتفائل هو أنه «يحل المشاكل بإنكارها»، نعم، في كل أمةٍ لغةٌ عامية ولغة فصحى، ولكن الفجوة بين العامية والفصحى في لغتنا ليست كنظيراتها في اللغات، إن بين عاميتنا وفصحانا فروقًا صوتية ونحوية وصرفية ومعجمية تجعل منهما، بقليل من التجوز، لغتين منفصلتين، (٣) كان هذا واضحًا حتى لابن خلدون (في القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي) الذي يقول في «المقدمة»: «اعلم أن عرف التخاطب في الأمصار وبين الحضر ليس بلغة مُضر القديمة ولا بلغة أهل الجيل، بل هي لغةٌ أخرى قائمة بنفسها بعيدة عن لغة مضر وعن لغة هذا الجيل العربي الذي لعهدها، وهي عن لغة مضر أبعد، فأما أنها لغةٌ قائمة بنفسها فهو ظاهر، يشهد له ما فيها من التغاير الذي يعد عند صناعة أهل النحو لحنًا.» (٤) ثمة نسقان نحويان متعارضان في قلب العربية: النسق الإعرابي المرن في الفصحى، ونسق إسقاط الإعراب والاعتماد على الترتيب المقيد لعناصر الجملة في العامية، يمثل هذان النسقان مرحلتين نحويتين في تطور اللغة. وثمة فروقٌ أخرى كبيرة: تخفيف الصوامت الثقيلة في النطق، إلغاء الحروف الأسنانية


(١) علي عبد الواحد وافي: فقه اللغة، ص ١٦١.
(٢) يقول د. طه حسين في «مستقبل الثقافة في مصر» (١٩٣٧): « … لن أومن ولن أستطيع أن أومن بأن للغة العامية من الخصائص والمميزات ما يجعلها خليقة بأن تسمى لغة، وإنما رأيتها وسأراها دائمًا لهجة من اللهجات قد أدركها الفساد في كثير من أوضاعها وأشكالها … »
(٣) وللدقة فيما أشبه بلغتين منفصلتين ذواتي أصلٍ واحد.
(٤) مقدمة ابن خلدون، فصل «في أن لغة أهل الحضر والأمصار لغة قائمة بنفسها مخالفة للغة مضر»، ص ٤٥٢.

<<  <   >  >>