للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ونحن حين نتنبأ بأن العربية عاجزة عن نقل العلوم فإننا نتردد ونتلكأ في التعريب، ويطول هجرنا وإهمالنا للعربية؛ فتجف وتضمر، وتهزل وتذبل، وتعجز عن العطاء لأنها حرمت من الأخذ! ومن ثم يرفع نُذُر الشؤم عقيرتهم ويعلنون عجزها وقد جعله تنبؤنا حقًّا!

يقول الأستاذ ساطع الحصري (رائد القومية العربية): «لا شك أنها إن أمست اليوم عاجزة وفقيرة، بعد أن كانت بالأمس غنية وقديرة، فما ذلك إلا لأن المتكلمين بها قد انقطعوا عن مزاولة العلوم منذ قرون، ولأنهم حبسوا أذهانهم في دائرة ضيقة من الأدبيات والشرعيات، منصرفين إليها عن كل ما سواها، وكأني باللغة العربية قد ظلت داخل هذه الشرنقة المعنوية جامدة خامدة، لا تتحول ولا تتكيف، ولا تنمو ولا تتطور.» (١) ويقول أ. حسام الخطيب: «إن اللغة العربية غير مخدومة لغويًّا وعلميًّا وتربويًّا وإعلاميًّا، وإنها تحتاج إلى جهودٍ علمية - عملية حتى تنتقل من عبءٍ نفسي عند مستخدميها إلى بهجة ويسر ودافع إيجابي.» (٢)

ويقول الأستاذ إبراهيم اليازجي: «اللغة بأهلها، تشبُّ بشبابهم وتهرم بهرمهم، وإنما هي عبارة عما يتداولونه بينهم، لا تعدو ألسنتهم ما في خواطرهم، ولا تمثل ألسنتهم إلا صور ما في أذهانهم؛ ولذلك فإن كان ثمة هرمٌ فإنما


(١) د. عبد الحافظ حلمي محمد: مؤتمر مجمع اللغة العربية بالقاهرة، الدورة ٦٣، ٢٢ مارس ١٩٩٧.
(٢) يعود مصطلح «النبوءة المحققة لذاتها» Self-fulfilling prophecy إلى عالم الاجتماع في القرن العشرين روبرت مرتون، ويستند مفهومه إلى «مبرهنة توماس» القائلة بأنه «إذا عرَّف الناس المواقف على أنها حقيقية تكون حقيقية في نتائجها»، يذهب توماس إلى أن الناس لا تستجيب للمواقف فحسب، بل تستجيب أيضًا، وبصفة أساسية في الغالب، للطريقة التي يدركون بها المواقف والمعنى الذي يضفونه على هذه المواقف، وبالتالي فإن سلوكهم يحدده (جزئيًّا) هذا الإدراك وهذا المعنى لا المواقف ذاتها. فما إن يُقنع الناس أنفسَهم بأن لموقفٍ معين معنًى معينًا على الحقيقة، وبغضِّ النظر عما إن كان كذلك بالفعل، فسوف يتخذون من جرائه أفعالًا جد حقيقية.
تصور مصرفًا (بنكًا)، كأفضل وأمثل ما يكون المصرف، يُدار على نحوٍ أمينٍ قويم، وهو كأي مصرف لديه سيولة نقدية معقولة، ولكن معظم أصوله بطبيعة الحال مستثمرة في أعمالٍ ومشروعات، وذات يوم تصادف أن كان هناك تزاحم على المصرف، وهو ما أزعج العملاء فسرَتْ شائعة بأن المصرف موشك على الإفلاس، وسرعان ما تقاطر بقية العملاء على المصرف يطالبون بسحب ودائعهم، وبالطبع لم تتوافر السيولة الكافية لسد مطالبهم، فنفدت السيولة وأعلن المصرف إفلاسه!

تبين لنا هذه الحكاية الخيالية أن التعريفات الشائعة لموقفٍ ما (التنبؤات أو التوقعات) تصبح جزءًا مدمجًا بالموقف، وتؤثر بذلك على التطورات اللاحقة، وهو أمر يخص الشئون البشرية ولا يوجد في الطبيعة المستقلة عن الفعل الإنساني: من ذلك أن التنبؤات بعودة مذنب هالي لا تؤثر في مداره الفعلي، بينما أثرت إشاعة إفلاس المصرف في المآل الفعلي للمصرف. إن نبوءة الإفلاس أدت إلى تحقيق ذاتها! ويخلص مِرتون إلى أن الطريقة الوحيدة لكسر حلقة «النبوءة المحققة لذاتها» هي أن نعيد تحديد القضايا التي تستند إليها من الأصل افتراضاتها الكاذبة.
وفي المجال التربوي لوحظ دائمًا أن أداء التلاميذ يأتي متفقًا مع توقعات مدرسيهم، وفي دراسة شهيرة أجريت عام ١٩٦٨ أنبأ الباحثون عددًا من مدرسي المرحلة الابتدائية بأن بعض تلاميذهم تبين امتلاكهم قدراتٍ كبيرةً للنمو المعرفي، على حين أن هؤلاء التلاميذ كان قد تم تحديدهم عشوائيًّا! وبعد انقضاء ثمانية أشهر أجريت اختبارات ذكاء على تلاميذ المدرسة، فحصل هؤلاء التلاميذ المحددون عشوائيًّا على درجات أعلى بصفةٍ عامة من أقرانهم، وقد صارت هذه الظاهرة تعرف باسم «أثر بيجماليون» Pygmalion Effect نسبة إلى مسرحية برناردشو.
ومن الحكايات الواقعية الشهيرة ما حدث في يناير عام ١٩٤٠: فقد كان ماركوس جرافي، داعية التعاون الأفريقي، يعاني سكتة دماغية نجا منها بالفعل، غير أنه فوجئ بنعيه منشورًا بطريق الخطأ في جريدة شيكاغو دفندر، واصفًا إياه بأنه «انسحق وحيدًا مغمورًا»، فصُدم حين قرأ هذا النعي صدمةُ شديدة أصابته بسكتة دماغية ثانية توفي إثرها، وبذلك صدق النعي!
وقد أشار كارل بوبر إلى هذه الظاهرة وأسماها «الأثر الأوديبي» Oedipal Effect بمعنى تأثير النظرية أو التوقع أو النبوءة على الحدث الذي تتنبأ به أو تصفه، إذ كانت السلسلة السببية التي أدت إلى قتل أوديب لوالده في الأسطورة قد بدأت بنبوءة «الوحي» بهذا الحدث. يقول بوبر في «عقم المذهب التاريخي»: « … أود أن أطلق اسم الأثر الأوديبي على تأثير النبوءة في الحادث المتنبأ به، أو على تأثير المعرفة عامةً في وقوع الحادث أو في منعه، ومن أمثلة التأثير المنعي أن التنبؤ بأن سعر الأسهم سوف يأخذ في الارتفاع على مدى ثلاثة أيام ثم يهبط بعدها؛ سوف يدفع الناس إلى أن تبيع أسهمها في اليوم الثالث، وبذلك يهبط السعر ويكذب التنبؤ. نحن إذن في العلوم الاجتماعية بإزاء تفاعلٍ شامل معقَّد بين المشاهِد والمشاهَد، بين الذات والموضوع. ومن المحتمل أن يكون لوعينا بوجود الاتجاهات التي قد تسبب في المستقبل حادثًا معينًا، ولإدراكنا أيضًا أن التنبؤ قد يؤثر هو نفسه في الحوادث المتنبأ بها؛ من المحتمل أن تكون لكل ذلك آثاره في مضمون التنبؤ، وقد يكون من شأن هذه الآثار أن تخل بموضوعية التنبؤات وغيرها من نتائج البحث في العلوم الاجتماعية.» ويقول بوبر في كتابه Unended Quest: «كنت أعتقد يومًا أن الأثر الأوديبي يميز العلوم الاجتماعية عن العلوم الطبيعية، ولكن في البيولوجيا أيضًا، وحتى في البيولوجيا الجزيئية، كثيرًا ما تلعب التوقعات دورًا في إحداث ما كان متوقعًا.»

<<  <   >  >>