للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قلنا: إن حركات الإعراب تدل على المعاني دلالةً تسمح بالتقديم والتأخير ووضع الكلمة في الموضع الذي يناسب مبنى البيت ولا يخل بمعناه، انظر هذا البيت للمتنبي:

أتى الزمانَ بنوه في شبيبته … فسرَّهم وأتيْناهُ على الهرَمِ

وانظر هذا البيت:

سِوى وجعِ الحسَّادِ داوِ فإنه … إذا حلَّ في قلبٍ فليس يَحُولُ

وهذا:

قمرًا نَرَى وسحابتَينِ بمَوضعٍ … منْ وجْهِهِ ويَمينِه وشمالِهِ

مثل هذه الطواعية وهذه الحرية لا تتاح للغة غير مُعرَبة، ومثل هذا النسق لا يستقيم لشاعرٍ ينظم بغير العربية؛ «لأن الترتيب الآلي يقيده بموضعٍ لا يتعداه، حيث يطلقه الإعراب «العربي» المعدود في عرف أعدائه الجهلاء قيدًا من القيود!» (١)

لا شك أن الإعراب يمثل صعوبةً معينة، ولولا ذلك لما قال عبد الملك بن مروان: «شيَّبني ارتقاءُ المنابر وتوقُّعُ اللحن»، ولكن لا يُماري أحدٌ في أن لغة الإعراب تهيب بالقارئ أن يستجمع قواه الفكرية، وتدعوه إلى حسن التأهب لقطع أشواط الفهم. إن المران على صحة الإعراب هو في الوقت نفسه مران على يقظة الوعي وجودة الفهم، فالعربية بحكم تركيبها وبنائها تتطلب من المرء يقظةً واعية وجهدًا موصولًا وبُعدًا عن الآلية، ومتى تعوَّد المرء بذل الجهد لاستجماع الفكر قبل أن يقرأ أو يكتب أو يسمع نشأ لديه استعدادٌ للفهم يلازمه طول حياته، وكان في أحكامه أقرب إلى الروية والتدبر وأبعد عن التهور والتحيز، (٢) وهذه فضائل مستفادة أثمن بكثيرٍ مما بذل فيها وأنفق من أجلها.


(١) اللغة الشاعرة، ص ١٧.
(٢) انظر في ذلك «فلسفة اللغة العربية»، د. عثمان أمين، فصل «اعتراض وردّ»، ص ٧٢ - ٧٨.

<<  <   >  >>