واقع عنيد صلب له تعاريجه وتضارسه، وله ميوله واتجاهاته، وله مقتضياته وإملاءاته، ثمة معطيات قائمة عليك أن تبدأ منها وبها، ومن ثم فإن الإصلاح الحقيقي لا يكون إلا جزئيًّا متدرجًا. إن البشر، كما يصفهم أوتو نويرات في تشبيهٍ شهير، «أشبه ببحارة سفينة في عرض البحر: يمكنهم أن يصلحوا أي جزء من السفينة التي يعيشون فيها، ويمكنهم أن يصلحوا السفينة كلها جزءًا جزءًا، ولكن لا يمكنهم أن يصلحوها كلها دفعةً واحدة».
أول خطوة إصلاحية هي إعادة اختراع «الدولة»! وهي، إن شئت الدقة، ليست خطوةً بل هي شرط كل خطوةٍ وأرضيتها: ثمة «أمرٌ» لا بد له من «ولاة»!
ثمة علوم يجب أن تُعرَّب، فلنبدأ بالتعريب أولًا ثم نتناقش في أمر النتوءات العابرة التي ستصادفنا والتي يذللها السير نفسه: لنبدأ، «اختباريًّا» Tentatively بقسمٍ من الطلاب يدرسون بعض المواد بالعربية، مع كتابة المصطلح الأجنبي إجباريًّا والإلمام به والسؤال فيه، لا معنى لتسويف هذه التجربة البسيطة التي نوقن بنجاحها: بمنطق العقل، ومنطق الأشياء، وخبرة الأمم الأخرى، ثم نتدرج في التعريب، وأول الغيث قطرة.
ثمة قنوات فضائية للأطفال، فلندبلج، وننتج، لهم أجود الرسوم والأفلام بعربية شائقة ميسرة، ولنجند لذلك أقدر الممثلين والمخرجين، بإشراف المجمع، ورعاية الدولة وإغداقها.
ثمة قنوات فضائية مرموقة وسابقة، كالجزيرة، تعمل بالعربية بنجاحٍ تام وجاذبية مشهودة، فلنعمم التجربة عندنا ونفرد قنواتٍ تنطق بفصحى ميسرة، ترفرف كالعرب على الإعراب ولا تتفيهق فيه وننتدب لها أكفأ الإعلاميين ونُغدِق.
ثمة ندوبٌ وبثور في وجه القاهرة والمدن الأخرى: لافتات وإعلانات وواجهات بالإنجليزية والعامية، لها أن تمهل للإزالة؛ حفاظًا على الهوية القومية والذوق العام، ولسنا في ذلك بدعًا بين الأمم.
لنشجع حفظ القرآن، بغض النظر عن الديانة وبمعزلٍ عن المسألة الدينية، ونجعل لحفظته مزيةً كالتي لأبطال الرياضة في الشهادات العامة، وإن سلامة اللغة لمزيةٌ علمية كبيرة يحق لصاحبها، من أي ديانة، أن يتميز على أقرانه.
لنتوقف عن السخرية من العربية ومن أستاذ العربية في أفلامنا وإعلامنا، ماذا يضحكنا في ذلك؟ إنما يضحكنا جهلنا واغترابنا عن ذاتنا وخزينا في أنفسنا! إننا لفي غنًى عن ضحكةٍ تباع لنا بثمنٍ باهظ، وإن مجال الضحك من بعد ذلك لممدودٌ ذو سعة.