للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كلها تعبر عن ضمور الجوهر واللباب، وغلبة اللحاء والقشور،

وكلها دليلٌ على الترهل والضعف،

وعبءٌ على الحيوية،

وأذانٌ بالزوال.

أسرف النحاة الأوائل في تضخيم قواعد اللغة وإثقالها بكل ما لا يفيد الاستعمال الحقيقي للغة: من حذف وتأويل وقياس واستتار وتقدير، فلا يخلص المرء إلى تعلم ما يفيده إلا وقد تعلم ما لا يفيده! يحكي الجاحظ أنه قال لأبي حسن الأخفش: أنت أعلم الناس بالنحو، فلم لا تجعل كتبك مفهومة كلها؟ وما بالنا نفهم بعضها ولا نفهم أكثرها؟ وما بالك تقدم بعض العويص وتؤخر بعض المفهوم؟ قال الأخفش: أنا رجل لم أضع كتبي هذه لله، وليست هي من كتب الدين، ولو وضعتها هذا الوضع الذي تدعوني إليه قلت حاجاتهم إليَّ فيها … وإنما قد كسبت في هذا التدبير إذ كنت إلى التكسب ذهبت، (١) وقد تفطَّن ابنُ مضاء القرطبي لهذه المأساة منذ ثمانية قرون، ودعا إلى دراسة اللغة كما ينطقها العرب، لا كما تخيَّلها النحاة.

لسنا نتنازل عن درهمٍ من زبدة اللغة، وإنما نريد إزالة هذا اللحاء اليابس المتراكم الذي يخنقها ويثقل على حاملها فيصرفه عن قشرها ولُبابها معًا، ليبقى جاهلًا بها أبد الدهر.

ليكن مبدؤنا في استخلاص القواعد: كيف نستعمل اللغة كما استعملها العرب وكيف نربي السليقة ونكوِّنها، لا كيف نحفظ ألاعيب النحاة ونخبُّ في كل لونٍ من التعليل والتأويل والتشذيذ … إلخ مما لم يعرفه الأوائل سادة اللغة أنفسهم ولا خطر لهم في بال! نريد قواعد تعيد إلينا سليقة هؤلاء، أو سليقة قريبة من سليقتهم، نريد لغةً نستعملها لا لغةً تستعملنا!

وسأضرب مثالَيْن على هذا اللحاء الثقيل الذي يمكن للطالب المبتدئ أن يستغني عنه دون أن يفوته شيءٌ من زبدة العربية أو من منطق العرب:

أسلوب التعجب: من قبيل «ما أجمل السماء». (٢)


(١) د. إميل بديع يعقوب: من قضايا النحو واللغة، الدار العربية للموسوعات، بيروت، ٢٠٠٩، ص ٥٥.
(٢) يقول د. شوقي ضيف في كتابه «تيسيرات لغوية»: «هذه هي صيغة التعجب الأساسية التي يكثر دورانها في العربية، فيقال: ما أحسن الرياض! تعجبًا من حسنها. وقدَّر البصريون أن «ما» في مثل هذا التعبير نكرة تامة مبتدأ، بمعنى «شيء»، وأحسن فعل ماض به ضمير فاعل يعود على «ما»، و «الرياض» مفعول به منصوب، والفعل وفاعله ومفعوله خبر «ما»، ولم يوافق الأخفش الأوسط على أن تكون «ما» نكرة تامة، وقال: إما أن تكون «ما» نكرة موصوفة وجملة «أحسن الرياض» بعدها صفة لها، والخبر محذوف والتقدير «أي شيء أحسن الرياض عظيم» وإما أن تكون «ما» موصول بمعنى الذي وما بعدها صلة لها والخبر أيضًا محذوف، والتقدير «الذي أحسن الرياض عظيم»، والتقديران اللذان قدرهما الأخفش يحملان غير قليل من التكلُّف، وأَوْلى منهما الرأي السالف لغيره من البصريين القائل بأن «ما» التعجبية نكرة تامة بمعنى شيء، وتقدير العبارة السالفة معها: «شيء حسَّن الرياض»، ولا بد أن نعترف بأن هذا التقدير يحمل أيضًا شيئًا من التكلف؛ لأنه يجعل العبارة «ما أحسنَ الرياضَ» خبرية بينما هي تعجبية إنشائية، ولا ريب في أنه يُسقِط منها معنى التعجب، ولعل ذلك ما جعل الكسائي إمام المدرسة الكوفية يذهب إلى أن «ما» تعجبية ولا موضع لها من الإعجاب، فهي ليست مبتدأ كما رأى البصريون والأخفش، إنما هي حرف للدلالة على التعجب كدلالتها في مثل: «ما جاء أحد» على النفي، وإذا أخذنا برأي الكسائي في «ما» التعجبية كان الفعل الماضي بعدها لا يحمل ضميرًا مستترًا وجوبًا فاعلًا لها، بل كان فارغًا تمامًا من الضمير، فكيف تحل مشكلة هذا الفعل الذي ليس له فاعل في تقدير الكسائي لما التعجبية؟ والحل مفتاحه بسيط، هو رأي ابن مضاء في أن الفعل قد يستغني عن الفاعل لدلالته عليه بمادته، ففعل «أحسن» في قولنا «ما أحسن الرياض» لا فاعل له و «الرياض» مفعول به» (شوقي ضيف: تيسيرات لغوية، دار المعارف، ١٩٩٠، ص ٣٠ - ٣١).

<<  <   >  >>