وفي ضوء هذا التمييز الإبستمولوجي بين «معرفة أن» و «معرفة كيف»، يمكننا أن نقول بحسم: إنَّ معرفة اللغة تنتمي إلى مقولة «معرفة كيف» أكثر مما تنتمي إلى «معرفة أن»: فتعليم اللغة ليس عرْضًا لكمٍّ من المعلومات أو القضايا Propositions، ولكنه بالدرجة الأولى «مهارة». وإن تعليم النحو، كما يقول د. أحمد مختار عمر، لا يتحقق إلا إذا حول القاعدة إلى مهارة، ومكَّن الدارس من استعمال العبارات استعمالًا سليمًا دون تفكير أو وعي بالقاعدة. وقد جاء عن ابن خلدون في «المقدمة» ما يُشير إلى الْتفاته لهذه المسألة، وسبقه في كل ما هو تحليلي علمي.
يقول ابن خلدون في الفصل الخمسين المُعنون «في أن ملكة هذا اللسان غير صناعة العربي ومستغنية عنها في التعليم»: «والسبب في ذلك أن صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه الملكة ومقاييسها خاصةً، فهو علمٌ بكيفيةٍ لا نفس كيفية (أي هو معلومات عن الطريقة وليس الطريقة نفسها)، فليست نفس الملكة وإنما هي بمثابة من يعرف صناعة من الصنائع عِلمًا ولا يُحكِمها عَمَلًا مثل أن يقول بصيرٌ بالخياطة غير محكم لملكتها: الخياطة هي أن يدخل الخيط في خرت الإبرة ثم يغرزها في لفقي الثوب مجتمعين ويخرجها من الجانب الآخر بمقدار كذا ثم يردها إلى حيث ابتدأت ويخرجها قدام منفذها الأول بمطرح ما بين الثقبين الأولين، ثم يتمادى على ذلك إلى آخر العمل ويعطي صورة الحبك والتثبيت والتفتيح وسائر أنواع الخياطة وأعمالها، وهو إذا طولب أن يعمل ذلك بيده لا يحكم منه شيئًا، وكذا لو سئل عالم بالنجارة عن تفصيل الخشب، فيقول هو أن تضع المنشار على رأس الخشبة وتمسك بطرفه وآخر قبالتك ممسكٌ بطرفه الآخر، وتتعاقبانه بينكما وأطرافه المضرسة المحددة تقطع ما مرت عليه ذاهبةً وجائيةً إلى أن ينتهي إلى آخر الخشبة، وهو لو طولب بهذا العمل أو شيءٍ منه لم يحكمه، وهكذا العلم بقوانين الإعراب مع هذه الملكة في نفسها، فإن العلم بقوانين الإعراب إنما هو علم بكيفية العمل؛ ولذلك نجد كثيرًا من جهابذة النحاة والمهرة في صناعة العربية المحيطين علمًا بتلك القوانين إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه أو ذي مودته أو شكوى ظلامة أو قصدٍ من قصوده؛ أخطأ فيها عن الصواب وأكثر من اللحن.» (١)