للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هذا الحزب الثاني، حزب الغلاة الغيورين المحافظين، ليس بعيدًا في مآله عن الأول: يوشك تنطُّعُهم القائم على أساسٍ مغلوطٍ ومصادراتٍ باطلة أن يترك مركب اللغة يغرق بحمله، وتوشك العربية في قبضتهم المتشنِّجة أن تموت اختناقًا.

ينسى المحافظون، هواة قُلْ ولا تَقُلْ، أن اللغة ليست كيانًا كلسيًّا نهائيًّا، إنما اللغة في سيولةٍ دائمة، وفي تحوِّلٍ دائب وإن كان بطيئًا لا يكاد يدرك إلا بمَرِّ العقود أو القرون. علوم اللغة كانت تقعيدًا للغة في لحظةٍ زمنيةٍ معينة، وفي لحظة أخرى ينبغي أن تكون هناك علومٌ أخرى.

ينسى هؤلاء أن اللغة في سيرورتها في الزمان تعتريها تغيراتٌ كثيرة: منها التغير الصوتي والتغير النحوي والتغير الدلالي أو «السيمانتي». (١)


(١) للتغير الدلالي أنواعٌ عديدة منها:
«التوسع» Extension أي اتساع معنى الكلمة وامتدادها لتشمل ما لم تكن تشمله في الماضي، من ذلك أن كلمة Virtue (الفضيلة) كانت في اللاتينية صفة ذكورية، فاتسع معناها الآن لتشمل كلا الجنسين.

«التضييق» Narrowing أي تقلص نطاق المعنى واقتصاره على شيء بعينه من بين أشياء كان يشملها في الماضي. من ذلك أن كلمة Mete في الإنجليزية القديمة كانت تشير إلى الطعام أو الغذاء بصفة عامة، وقد ضاق معناها الآن ليخص صنفًا واحدًا فقط من الطعام.
«التحول» Shift أي انتقال الكلمة من مجموعة من الأحوال إلى أخرى، من ذلك أن كلمتي «ملاحة» و «ميناء»، كانتا مقصورتين في الماضي على مجال السفن أو المجال البحري والنهري، وقد انتقلتا الآن إلى المجال الجوي، بل والبري.
«الاستعمال المجازي» Figurative Use وهو تحول في المعنى قائم على مماثلة أو تشابه بين الأشياء، من ذلك أن كلمة Crane (كركي)، وهو طائر طويل العنق، تستعمل الآن لتعني الرافعة أيضًا.
«الانحدار الدلالي» أو «الانحطاط الدلالي» Semantic Deterioration («الزراية» Pejoration) وهو تغيرٌ يلحق بمعنى اللفظة فيكسبها دلالةً سلبية، مثال ذلك ما حدث لكلمة Notorious التي كانت في الأصل تعني «مشهور» ثم انحدرت دلالتها وصارت تعني «مُشَهَّر، أي مشهور بشيءٍ قبيح».
وتقابل الانحدار الدلالي ظاهرة «التحسن (الدلالي)» أو «الارتقاء (الدلالي)» Amelioration حيث تكتسب اللفظة دلالةً إيجابية أو يزايلها ما كان لها في الأصل من دلالة سلبية، مثال ذلك كلمة Minister (وزير) فقد كانت قديمًا تعني «خادم» (ولا تزال تستعمل كفعلٍ بمعنى يسعف أو يعين أو يقدم خدمة)، وكذلك كلمة Nice (لطيف) فقد كانت قديمًا تعني «غبي أو أحمق». وهناك أمثلةٌ أخرى كثيرة يخطئها الحصر، ومن الأمثلة الحية الطريفة ما حدث لكلمة «الزمالك» كاسمٍ لأرقى أحياء القاهرة وهي في الأصل جمع «الزملك» أي العشة الحقيرة! (تحسن، ارتقاء)، وفي المقابل ما حدث لكلمة «بولاق» كاسمٍ لحيٍّ شعبي متواضع بالقاهرة فهي في الأصل تعبيرٌ فرنسي يعني «البحيرة الجميلة» (انحدار، زراية).

<<  <   >  >>