للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

«موثقة» من العرب الخُلَّص، فكانت الحصيلة لغةً ثرية في ألفاظ البداوة، فقيرةً في ألفاظ الحضارة؛ مما اضطرهم، أو غيرهم، في العصر العباسي إلى التعريب (١) «بعد أن أعرضوا عنه؛ نزولًا على حكم الطبيعة وتطور العمران، وخلطوا ما أخذوه عن القبائل بما عرَّبوه عن الأمم المتمدنة، فأضاعوا بذلك القاعدة الأولى التي رسموها لأنفسهم وهي الأخذ عن العرب الخُلَّص فقط، ولو كانوا أدركوا هذه النتيجة لسمحوا لأنفسهم من أول الأمر بالأخذ عن القبائل التي اختلطت بالعجم؛ فهم على الأقل أَولى من العجم الصرف الذين عرَّبوا عنهم.» (٢)

والآن هل يصمد هذا النقد حين نضع أنفسنا مكان هؤلاء النحاة ونحمل همومهم التي حملوها؟ لقد حاولوا الحفاظ على جوهر العربية ولبابها ليفهموا بها القرآن وينقذوا الأصل المهدَّد بالضياع، ولْيُعَرِّبوا بعد ذلك ألفاظ الحضارة ما شاءوا، ويصبغوها بالصبغة العربية ما داموا قد استخلصوا هذه الصبغة نقيةً صحيحة. لقد كان همهم أن يتداركوا العربية في ألسنة الخُلَّص قبل أن تغيرها الحضارة بترقيقٍ وسعة. يقول الأستاذ أمين الخولي «إنهم كانوا يجمعونها ليجنِّبوها هذا الترقيق والتوسيع، ثم لا عليهم بعد ذلك أن يعرِّبوا هم أو غيرهم فيقدموا للحياة حاجاتها، ويضيفوا إلى جانب الفصيح الأصيل، الذي حفظ جوهر العربية وروحها، ما عرَّبوه هم فأكسبوه تلك الروح العربية، وأعطوه الصورة العربية، بعد أن عرفوا هذا كله واستشفُّوه مما جمعوه من خالص العربية في لسان خُلَّص أهلها، وهم لم يضيعوا بهذا التعريب ولا بجمع الألفاظ الجديدة قاعدتهم الأولى التي رسموها لأنفسهم قط، بل لو أخذوا من أول الأمر عن القبائل التي اختلطت بالعجم لأنهم على الأقل أولى من العجم الصرف الذين عربوا عنهم؛ لو فعلوا ذلك لأضاعوا جوهر العربية وطابعها الذي يبغون الاحتفاظ به؛ لاعتباراتٍ دينية واجتماعية؛ إذ سيكون ما جمعوه من هذا الخليط ليس هو العربية التي عرفها شعرهم المأثور وفنهم الموحي.» (٣)

هكذا يكون الفهم الحقيقي لتاريخ الأفكار، ف «التعريب» غير «العُجمة»: التعريب يتناول اللفظة الأعجمية ويعلِّمها العربية! العربية التي أُنقِذت وحُفظت وصِينتْ بفضل الأخذ عن العرب الخلص، «وهل كانوا يعربون قبل أن يعرفوا طابع العربية الصميم


(١) في مقال «جمع اللغة» للدكتور أحمد أمين: «كان عملهم في الجمع بدائيًّا غير منظم، منهم من يلتقطون ما يسمعون من ألفاظ ويدونونها، وعيب هذه الطريقة أنهم لم ينصوا في الأعم الأغلب على القبيلة الواحدة التي جمعوا منها ألفاظهم، بل يهتمون بالكلمة التي سمعوها ويدونونها حيثما اتفق؛ ولذلك نرى نقصًا كبيرًا في هذا الجمع فأحيانًا نجد مصدرًا ولا نجد فعلًا، وأحيانًا نجد مفردًا ولا نجد مثناه ولا جمعه، وأحيانًا نجد الجمع ولا نجد المفرد وهكذا» (مجلة المجمع اللغوي، العدد ٨: ٢١٠ - ٢١١).
(٢) أي أخذ اللفظة الأعجمية نفسها وإدخالها متن اللغة (بعد تطويعها للمقتضيات الصوتية والصرفية للغة العربية).
(٣) مجلة المجمع اللغوي عدد ٦/ ٨٧.

<<  <   >  >>