تعريب العلوم، ممارسة التصنيع والتحديث، ممارسة الإبداع العلمي والفكري والفني والشعري بخاصة (الشعر يغسل اللغة، يخلخل التراكيب، يفرغ الألفاظ من ماضيها ويعلمها أن تقول ما لم تتعود قوله … )، ممارسة الحرية (وهذه وصفة أدونيس)، (١) كل أولئك خطوطٌ علاجية مهمة لتجديد العربية وإصلاح حالها.
سنسلِّم، مرحليًّا، بثنائية اللغة، وعلينا أثناء سيرنا على درب العربية الجديدة أن نطاوع الضغطين: الخارجي (ضغط اللغة الأجنبية - الإنجليزية بخاصة)، والداخلي (ضغط اللغة المحكية - العامية)، أن نهادن، مرحليًّا، ونعترف بسلطان هاتين اللغتين ونتعامل معهما بودٍّ، ونسترفدهما بحيث تقترب لغتنا العربية من الثنتين وتفيد من مزاياهما، تأخذ عنهما وتستوعب وتتمثل، ثم تحيل إلى كيانها وبنيتها، مثلما فعلت على مر العصور السابقة على سيبويه والخليل. علينا أن نُقرِّب الفصحى من المحكية (في الصحافة والإذاعة والفضائيات كالجزيرة، والإنترنت، وبقية الوسائط)، وأن نقرب المحكية من الفصحى، كما يحدث تلقائيًّا مع انتشار التعليم والثقافة، وكما يحدث حين نشجع الأدب المحكي الذي يماس الفصحى ولا يكاد يختلف عنها اختلافًا نوعيًّا (مثل أغنيات أحمد رامي في السابق، وأشعار ماجد يوسف في الحاضر).
شيئًا فشيئًا ستنمو الفصحى وتنتعش، ولا تزال تذوب العامية في بطن الفصحى الجديدة حتى تتقلص الفجوة الفاصلة بينهما وتصبح الفصحى الجديدة لغةً محكية لا تفارق اللسان، تصبح «لغة حية».
ثم علينا مواكبة التحول اللغوي أكاديميًّا، مع تقنينه وتقعيده أولًا بأول، مثلما تفعل الأمم المتطوِّرة لغويًّا، إنه ضبطٌ لإيقاع التحول حتى لا تسير الأمور كيفما اتفق ويذهب
(١) يقول أدونيس في «المحيط الأسود»: «ليست مشكلة اللغة العربية، في تقديري، مجرد مشكلة في النحو والصرف، أو الفصحى والدارجة، أو لنقل: إن مشكلة اللغة العربية ليست لغوية، في المقام الأول، وإنما هي مشكلة عوائق دينية وسياسية تشل الإبداعية العربية، وتعطل طاقات التجديد، فلا مجال، في المجتمع العربي، لإبداع حر بلا قيود، يحرك اللغة العربية، ويصعد بها إلى ذروات وآفاقٍ جديدة: يفتقها، ويفجرها، بحيث تنشأ تسميات جديدة، وألفاظ جديدة، وصيغ وتراكيب جديدة، وبحيث تصبح اللغة متحركة وحية كمثل الحياة وكمثل الجسد، لا مجرد قواعد جامدة في الرأس. كلا، لن تتقدم اللغة العربية، مهما جددت أو يسرت طرق تدريسها، ما دامت ترقد في سرير هذه المؤسسات الأيديولوجية، بل إنها، على العكس، ستزداد انهيارًا، وسيزداد العزوف عنها، هل تريدون، أيها الحريصون على اللغة العربية، أن تظل هذه اللغة حية، نامية، خلَّاقة؟ إذًا، أحيوا الإبداع، والكتابة، والتفكير، أحيوا الحرية.» (أدونيس: المحيط الأسود، دار الساقي، ٢٠٠٥، ص ٤٤١ - ٤٤٢)