للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فيكتسب ما تيسر من عناصر المادة الأولية اللغوية وأوَّليات النحو والصرف، وأوَّليات البلاغة والعروض والألسنية؟ وهي عدة كافية لتوفير الحد الأدنى من التراكيب والمفردات الضروري له للتعامل مع محيطه الاجتماعي والمهني، وللتصرف باللسان كأحد أبنائه، بل كسيِّد من سادته، وهل يحتاج غير المتخصصين باللغة إلى أكثر من هذا؟!» (١)

أما حركات الإعراب (أي اختلاف الحرف الأخير أو الأحرف الأخيرة في الكلمة حسب موقعها من الإعراب) ونجد مثله في اللاتينية وفي اللغات السامية القديمة وفي كثير من اللغات القديمة، فهو بغير شك صعوبة كبرى، غير أنه صعوبة مجزية، ووجوده في اللغة العربية يمنحها مزايا تعبيريةً وطاقاتٍ بيانيةً وموسيقية هائلة، هل الموقع من الإعراب سوى موقع من المعنى؟ الإعراب يضمن تماسك المعنى فيتيح للعربية مراغمًا كثيرًا للقيم الشكلية الدالة، (٢) يتيح لها التقديم والتأخير (كأن عظامها من خيزران كما يقول مارون عبود)، ويتيح تبديل الصدارة والخلفية بما يقتضي الحال («اللهَ أعبدُ» غير «أعبدُ اللهَ»، معنويًّا وعروضيًّا)، وتيسير التقفية في الشعر وحشد الدلالة عند القافية بحيث تؤتي أثرًا شعريًّا جماليًّا وتنتزع السامع من نفسه وترمي به في الوجد. إنه الخاصة البوليفونية الكامنة في العربية، والتي تجعلها مغردةً بالطبيعة شعريةً بالوراثة، وتسمح لها أن تتأود دون أن تنقصف، وتتمايد دون أن تنخسف، وتتيح لها أن تتراقص بليونة وأرجلها ثابتةٌ على الأرض (بل لعله يتيح لها أن تكون أكثر دقةً علمية وإبانةً فكرية).

الكاتب بالعربية كالعازف على البيانو: لديه أكثر من اعتبارٍ يراعيه في الوقت الواحد وأكثر من إصبعٍ ينقرها في ذات اللحظة! إنه لأمرٌ عسيرٌ وخطةٌ صعبة، ولكنها صعوبة الثراء، صعوبة الجمال.

وحركات الكتابة صعوبة بلا ريب، ولكنا نعلم أنه بالنسبة للقارئ المتمرس لا لزوم للتحريك في أغلب الكلام، وأما لغير المتمرس فإن تقنيات الطباعة الحديثة قد حلت هذه المشكلة المزمنة من حيث لا نحتسب. العربية لغةٌ تكتب على ثلاثة أسطر، وتقرأ مثلما تكتب (بمراعاة قواعد بسيطة) بدقةٍ تامة وكمالٍ عجيب.


(١) د. مفيد أبو مراد: إشكالية العامي والفصيح في اللسان العربي - مقدمة كتاب كامل صالح «يوسف الخال، حياته ودعوته اللغوية»، دار الحداثة، بيروت، ١٩٩٨.
(٢) «الشكل الدال» Significant Form عند كلايف بل هو ذلك التنظيم الخاص، أو الحبك الخاص، الذي يتخذه الوسيط الحسي للعمل الفني (الكلمات في فنون القول)، والذي من شأنه أن يثير في المتلقي انفعالا استطيقيًّا (جماليًّا).

<<  <   >  >>