للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فأصبح وليس هو صاحب اليد عليها ولا الكلمة فيها، بل الأمر في ذلك ل «وصي» أُقيم، ووليٍّ أنيب، فهو الذي يدبر أمرها: يؤجر ويبيع ويشتري ويرهن، ولن تخلص تلك التركة إلى وارثها إلا على حالٍ لا عمل له فيها، ولا ذنب له في سُوئها، ثم لا يد له بإصلاح أمرها في يسرٍ وسهولة، إن حاول تخليصها مما قيدت به أو أدينت أو عطلت.

(١) الخرجة الكبرى: عاشت هذه اللغة في مهدها من الجزيرة العربية ما عاشت من الزمن وشمْلُها جميعٌ، في عزة من أهلها، حتى كانت الخرجة الكبرى والهجرة البعيدة المدى التي دفعهم إليها الإسلام لنشر دعوته وإقامة دولته، فخرجت اللغة مع آلاف أهلها الذين خرجوا إلى المشرق القديم وأقصى المغرب المعروف.

(٢) التذويب: تفرقت اللغة مع الخارجين أوزاعًا (١) ومِزَقًا، فما كانوا وكانت إلا كالشعرة أو الشعرات البيضاء في الثور الأسود، وكأنما ذُوِّبوا في هذه الدماء والألسنة والأجناس التي خالطوها؛ وجعلت هذه العربية تتفاعل مع ما خالطت من لغات، فلا تعطي فقط بل كانت تأخذ كذلك، هذا التذويب في المزج الذي صادفه أهلها في الواسع الفسيح من أقطار الأرض حري بأن يخفف من كثافة مادتها وقوة تماسكها، ويخلخل نسيجها منذ اللحظة الأولى التي بدأ فيها، فيدخل عليها الضعف والوهن في صوغها وتركيبها وبيانها.

(٣) استشعار الخطر والتنادي للجمع: لم يغفل أهل العربية منذ أول الأمر عن هذا الأثر، بل هالهم أمره، فهبوا يحاولون أن يحفظوا على العربية تماسكها ويُوَقُّوها التخلخل والتحلل، ليظل لها من القوام ما تهدي به إلى مراد الدين وغرض القرآن ومقصد الشرع، جدُّوا ليخلصوا جوهر العربية ويصفُّوا معدنها، فالتمسوا ذلك عند العرب الخلص لا عند من دِيفَ (خُلِط) بالعُجمة؛ فخرجوا إلى البادية واستقدموا من أهلها إلى الحواضر ليلقِّنوهم ما عندهم وليتلقوا منهم بالممارسة المشافهة التي هي أسلم الطرق في كسب اللغة الحية، وجمعوا ما شاء الله لهم وشاء لهم النشاط الجاد أن يجمعوا، وأيقنوا في الوقت نفسه أن ما ضاع عليهم وأفلت من يدهم كثير بعد ما أمسكوا وحفظوا، ولكن لا حيلة.

(٤) نفاد الرواية والتحول إلى المدارسة والتقعيد: ولما عزت الممارسة اللغوية والتلقي المباشر عن مشافهة فزعوا إلى الطريقة الثانية، وهي المدارسة وكسب اللغة بالتعلم، وهي طريقة تحتاج إلى القواعد والأصول والضوابط، فاستقرءوا من مجموعهم في اللغة ما


(١) المرجع السابق، ص ٢٥.

<<  <   >  >>