للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

على آراء القدماء «فسنتبين سريعًا وفي وضوح أن ما زعمه الزاعمون من عمل الأفراد، أو الكثرة، في تكوينها ووضعها لا يؤيده شيء من طبيعة اللغة! وسيتبين لنا كذلك بأسرع وأوضح مما سبق أن إدراك هذا الفرد الممتاز، أو الكثرة الحكيمة، لمستقبل اللغة واحتياطهم لآخر أمرها … كل ذلك لا تحتمل تصديقَه طبيعةُ اللغة على ما عرفها البحث الاجتماعي، فليس لوضع الواضع الأول، بحكمته وحسن تأَتِّيه - أو بغير ذلك - وجودٌ ولا سند … لأن اللغة ليست إلا نشاطًا اجتماعيًّا، لا اجتهادًا عقليًّا وتدبيرًا منطقيًّا … وإذا ما استقرت هذه الحقيقة من خصائص اللغة بما هي نظام اجتماعي، اتضح لنا أن اللغات الصناعية المبنية على خطة منطقية قد وضعت مقدمًا غير ممكنة الوقوع إلا إذا كانت لغات خاصة: لغات فنية (تكنيكية) ولوائح إعلانات، ففي هذه الحال يكفي الاتفاق بين الأشخاص المعدودين الذين يستعملونها للاحتفاظ بها كما خلقت دون تغيير.» (١)

ولا يفوتنا، أخيرًا، أن نتبين البون البعيد بين الإطار المعرفي الذي كان يوجه عقل القدامى ويرشد بحثهم وبين النموذج المعرفي الحديث: كان «التنَزُّل»، إن صح التعبير هو الإطار القديم، كمقابل ل «التطور» في العقل الحديث، فالتطور «أصل أصيل في حياة اللغة بما هي كائن اجتماعي، وأساس التطور هو الوجود البسيط أولًا، ثم النماء المترقي ثانيًا، وخلال هذا الانتقال يتكون الكائن مترقيًا، ويتغير تغيرات متدرجة … وعلى ذلك لن نهتدي إلى صواب من الرأي في مشكلات حياتنا اللغوية إلا إذا ما أخذنا أنفسنا في تبين هذه المشكلات بالمنهج الذي يقرر عكس ما قرره الأقدمون في تكون اللغة العربية وحياتها؛ فإذا ما قالوا: إنها كانت كاملةً دقيقة أولًا ثم فسدت واضطربت، قال هذا المنهج إنها كانت ناميةً متغيرةً مكتملة، ولها في ذلك تاريخ حيوي ومرضي لا بد من معرفته قبل أن تقولوا بفسادها واضطرابها، أو بمَ فسدت؟ أو لمَ اضطراب؟! وتلك هي المهمة الكبرى، بل الهائلة، لمن يتحدث عن مشكلات حياتنا اللغوية حتى يكون حديثه سليم الأساس.» (٢)


(١) أمين الخولي، مشكلات حياتنا اللغوية، ص ٤٤ - ٤٥.
(٢) أمين الخولي، مشكلات حياتنا اللغوية، ص ٤٦.

<<  <   >  >>