للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مرفوعًا والمفعول به منصوبًا؟ ولم إذا تحركت الياء والواو وكان ما قبلهما مفتوحًا قلبتا ألفًا؟ وهذا ليس يكسبنا أن نتكلم كما تكلمت العرب، وإنما تستخرج منه حكمتها في الأصول التي وضعتها، وتبين بها فضل هذه اللغة على غيرها من اللغات.» (١) يطلق الزجاجي على النوع الأول «العلل التعليمية»، وعلى الثاني «العلل القياسية» و «العلل الجدلية والنظرية»، ويطلق ابن مضاء على النوع الأول «العلل الأُوَل» (بمعرفتها تحصل لنا المعرفة بالنطق بكلام العرب) في مقابل «العلل الثواني والثوالث» وهي «لا تفيدنا إلا أن العرب أمة حكيمة»، ويقسم العلل أيضًا إلى «علل كسب» تكسبنا أن نتكلم كما تكلمت العرب، و «علل حكمة» تظهر لنا حكمتها في الأصول التي وضعتها.

ومنذ البداية يطالعنا خلطٌ في استخدام النحاة لمصطلح «التعليل» نفسه! فهم تارة يستخدمونه للإشارة إلى طريقة عمل النظام اللغوي، وهو ما نسميه اليوم ب «الوصف»، وتارة يستخدمونه بمعنى «السبب الذي يجعل النظام اللغوي يعمل بالطريقة التي يعمل بها»، وهو المعنى الصحيح والقويم لكلمة «التعليل». وإن هذا الخلط المبدئي ليعكس خلطًا في الفهم نفسه، ولقد كان ينبغي أن يقيض مصطلحٌ خاص لكل من العمليتين المختلفتين اختلافًا نوعيًّا.

من المسلَّم به اليوم أن العلم لا يخوض في العلل الغائية للظواهر، وأن المنهج العلمي لا يعنيه إلا وصف الظواهر واستخلاص القوانين التي تطرد عليها، وباختصار: لا يعنيه إلا الإجابة عن «كيف»، أما إذا تخطى هذا النطاق إلى السؤال عن «لماذا» (لماذا تجري الظواهر على هذا النحو) فإنه يكون قد تخطَّى مجاله وتنكر لطبيعته ولم يعد منهجًا علميًّا، «فالعلل الغائية غير معترف بها علميًّا لأنها تتكلم أكثر عن أمورٍ غيبية لا سبيل إلى اختبار صدقها أو كذبها … ومن قبيل العلل الغائية علل النحاة التي يوردونها لرفع الفاعل، والمبتدأ والخبر، ونائب الفاعل، واسم كان، وخبر إن، وفي نصب المنصوبات، وفي منع بعض الأسماء من الصرف، وفي بناء المبنيات، وإعراب المعربات، وهلم جرًّا.» (٢)

ولكن ما احتيالك فيمن شَرَع في بحثه اللغوي وقد وقر في قلبه أن اللغة توقيفٌ إلهي أو وضع حكماء أو سليقةٌ سحرية؟ إنه مدفوعٌ إلى البحث عن «الحكمة» القابعة في هذه


(١) محمد بن سهل بن السراج: الأصول في النحو، تحقيق عبد الحسين الفتلي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ١٩٩٦، ١: ٣٥.
(٢) اللغة بين المعيارية والوصفية، ص ٥١.

<<  <   >  >>