للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أما الوجه الأول: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على هذا ولا أصحابه، وقد كان عليه الصلاة والسلام يأكل لحم الدجاج١، ويحب الحلوى والعسل.

ودخل فرقد السبخي على الحسن وهو يأكل الفالوذج، فقال: يا فرقد! ما تقول في هذا؟ فقال: لا آكله، ولا أحب من أكله، فقال الحسن: لعاب النحل، بلباب البر، مع سمن البقر؛ هل يعيبه مسلم؟!

وجاء رجل إلى الحسن، فقال: إن لي جارًا لا يأكل الفالوذج، فقال: ولم؟! قال: يقول: لا أؤدي شكره. فقال: إن جارك جاهل، وهل يؤدي شكر الماء البارد؟!

وكان سفيان الثوري يحمل في سفره الفالوذج والحمل المشوي، ويقول: إن الدابة إذا أحسن إليها، عملت.

وما حدث في الزهاد بعدهم من هذا الفن، فأمور مسروقة من الرهبانية، وأنا خائف من قوله تعالى: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [المائدة:٨٧] ولا يحفظ عن أحد من السلف الأول من الصحابة من هذا الفن شيء، إلا أن يكون ذلك لعارض.

وأما سبب ما يروى عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه اشتهى شيئًا فآثر به فقيرًا، وأعتق جاريته رميثة، وقال: إنها أحب الخلق إلى، فهذا وأمثاله حسن؛ لأنه إيثار بما هو أجود عند النفس من غيره، وأكثر لها من سواه، فإذا وقع في بعض الأوقات، كسرت بذلك الفعل سورة هواها أن تطغى بنيل كل ما تريد.

فأما من دام على مخالفتها على الإطلاق، فإنه يعمي قلبها، ويبلد خواطرها، ويشتت عزائمها، فيؤذيها أكثر مما ينفعها، وقد قال إبراهيم بن أدهم: إن القلب إذا أكره، عمي، وتحت مقالته سر لطيف، وهو أن الله عز وجل قد وضع طبيعة الآدمي على معنى عجيب، وهو أنها تختار الشيء من الشهوات مما يصلحها، فتعلم باختيارها له صلاحه، وصلاحها به. وقد قال حكماء الطب: ينبغي أن يفسح للنفس فيما تشتهي


١ تقدم تخريجه.

<<  <   >  >>