للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

من المطاعم، وإن كان فيه نوع ضرر؛ لأنها إنما تختار ما يلائمها؛ فإذا قمعها الزاهد في مثل هذا، عاد على بدنه بالضرر، ولولا جواذب الباطن من الطبيعة، ما بقي البدن، فإن الشهوة للطعام تثور١، فإذا وقعت الغنية بما يتناول، كفت الشهوة.

فالشهوة مريد ورائد، ونعم الباعث هي على مصلحة البدن، غير أنها إذا أفرطت، وقع الأذى، ومتى منعت ما تريد على الإطلاق مع الأمن من فساد العاقبة، عاد ذلك بفساد أحوال النفس، ووهن الجسم، واختلاف السقم، الذي تتداعى به الجملة، مثل أن يمنعها الماء عند اشتداد العطش، والغذاء عند الجوع، والجماع عند قوة الشهوة، والنوم عند غلبته، حتى إن المغتم إذا لم يتروح بالشكوى، قتله الكمد.

فهذا أصل، إذا فهمه هذا الزاهد، علم أنه قد خالف طريق الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من حيث النقل، وخالف الموضوع من حيث الحكمة.

ولا يلزم على هذا قول القائل: فمن أين يصفو المطعم؟ لأنه إذا لم يصف، كان الترك ورعًا، وإنما الكلام في المطعم الذي ليس فيه ما يؤذي في باب الورع، وكان ما شرحته جوابًا للقائل: ما أبلغ نفسي شهوة على الإطلاق.

والوجه الثاني: أني أخاف على الزاهد أن تكون شهوته انقلبت إلى الترك؛ فصار يشتهي ألا يتناول، وللنفس في هذا مكر خفي، ورياء دقيق، فإن سلمت من الرياء للخلق، كانت الآفة من جهة تعلقها بمثل هذا الفعل، وإدلالها في الباطن به، فهذه مخاطرة وغلط.

وربما قال بعض الجهال: هذا صد عن الخير وعن الزهد! وليس كذلك، فإن الحديث قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "كل عمل ليس عليه أمرنا، فهو رد"٢.

ولا ينبغي أن يغتر بعباده جريج٣، ولا بتقوى ذي الخويصرة٤.


١ في الأصل: تبور. وهو تصحيف.
٢ رواه البخاري "٢٦٩٧"، ومسلم "١٧١٨" عن عائشة رضي الله عنها.
٣ قصة جريج رواها البخاري "٣٤٣٦"، ومسلم "٢٥٥٠" عن أبي هريرة رضي الله عنه.
٤ قصة ذي الخويصرة رواها البخاري "٣٦١٠"، ومسلم "١٠٦٤" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

<<  <   >  >>